How Can We Help?
﷽
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث موجز عن مسألة من عيون مسائل الزكاة، من المسائل التي يترتب عليها كثير من الآثار الفقهية، حتى قال فيها تاج الدين السبكي في معرض ذكره للعديد من الفروع الفقهية المندرجة تحتها: “ومنها أكثر مسائل الخلاف في باب الزكاة”([1])، هذه المسألة هي مسألة: (هل الزكاة عبادة محضة أم حق مالي؟).
وقد قُسّمت خطة البحث على ثلاثة مباحث:
-
التعريف بمفردات العنوان.
-
بحث أصل مسألة: الزكاة هل هي عبادة متمحضة أم حق مالي؟
-
الآثار الفقهية المترتبة على هذا الأصل.
المبحث الأول: التعريف بمفردات العنوان
المطلب الأول: مفهوم العبادة لغة واصطلاحًا
العبادة لغة: “أصل العبودية الخضوع والذل، والتعبيد: التذليل، والتعبد: التنسك”.([2])
واصطلاحًا: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة”.([3])
المطلب الثاني: مفهوم الحق المالي لغة واصطلاحاً
الحق لغة: الحاء والقاف أصل واحد، وهو يدل على إحكام الشيء وصحته.([4])
واصطلاحا: اختصاص يقرر به الشارع سلطةً أو تكليفًا.([5])
المطلب الثالث: مفهوم المؤونة المالية لغة واصطلاحا
المؤونة لغة: المؤونة فعولة من مُنْته أمونه مونا، وهُمزت مؤونة لانضمام واوها، والمائنة اسم ما يمون أي يُتكلف من المؤونة.([6])
ويمكن تعريفه اصطلاحا: اسم لما يتحمله الإنسان من ثقل النفقة التي ينفقها على من يليه من أهله وولده([7]).
المبحث الثاني: دراسة أصل مسألة: الزكاة هل هي عبادة محضة أم حق مالي؟
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الخلاف في المسألة
لقد أوجب الله -عز وجل- “الزكاة مواساةً للفقراء، وطُهرةً للمال، وعبوديةً للرب، وتقربًا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته، ثم فرضها على أكمل الوجوه، وأنفعها للمساكين، وأرفقَها بأرباب الأموال”([8])، ووجوبها معلوم بالضرورة من دين الإسلام، فهي من أركان الديانة ودعائم الإسلام، قرينة الصلاة في كتاب الله في بضعة وثمانين موضعًا، وعبادةٌ من أجل العبادات، وركنيتها محل إجماع لا خلاف فيها.
وأجمعوا على وجوب النية في محض العبادة، وعلى نفي الوجوب فيما تمحض لغيرها كالديون والودائع، والغصوب، واختلف فيما فيه شائبتان كالطهارة والزكاة.([9])
وعامة الفقهاء ليسوا ينفون تعلق التعبد بها مطلقا، ولكن نظرهم متوجه إلى الأظهر من المعاني فيها، وفي هذا الشأن يقول العز بن عبد السلام: “جلب المصالح ودرء المفاسد فيما يتعلق بحقوق الخالق ثلاثة أقسام: أحدها ما هو خالص لله كالمعارف والأحوال المبنية عليها، والإيمان بما يجب الإيمان، الثاني: ما يتركب من حقوق الله وحقوق عباده، كالزكاة والصدقات، فهي قربة إلى الله من وجه، ونفع لعباده من وجه، ولكن الغرض الأظهر منها نفع عباده وإصلاحهم بما وجب من ذلك، أو ندب إليه، فإنه قربة لباذليه ورفق لآخذيه“([10]).
وإنما أثبت الشارع معنى العبادة في الزكاة تبعًا “ترغيبا في أدائها حيث كانت النفوس مجبولة على الضنة والبخل، فأمر بالتقرب إلى الله تعالى بها ليطمع في الثواب ويبادر إلى تحقيق المقصود؛ لأنها إنما شرعت لمصلحة شكر نعمة المال كما أوجبنا الصلاة والصوم، شكرًا لنعمة البدن، وهذا الوجه أحد معاني العبادة في الزكاة لكن هذا المعنى تبع، والأصل حق الفقراء لأنها واجب مالي، والله تعالى خلق المال لنفع العباد وكلما وجب في المال لا بد أن يبقى فيه المعنى الذى خُلق له أصل المال، وذلك نفع العبد فلهذا أوجب الزكاة للفقراء نفعا لهم، وإذا أوجب لنفعهم كان حقا لهم، وعلى هذا وقع الفرق بين هذا وبين العبادة البدنية؛ لأنها لم تجب لنفع أحد من الآدميين فتمحض حقا لله تعالى”([11]).
وقد اختلف الفقهاء في الزكاة هل هي عبادة محضة ([12]) أو حقّ مالي على قولين([13]):
القول الأول: أنها عبادة مالية محضة، وهو مذهب الحنفية.([14])
واستدلوا فقالوا:
-
الزكاة عبادة كسائر العبادات ([15])، فإنها تكليف من جملة التكاليف، يشترط لها ما يشترط للأحكام التكليفية من النية والقصد ونحوه.
-
“لأن المتصدق يجعل ماله لله تعالى، ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى، قال الله تعالى {هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} [التوبة: 104]، وقال {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} [البقرة: 245] وبجعل المال له خالصا يكون عبادة خالصة ولهذا يحصل به التطهير وبه تبين أنه ليس فيه حق العباد؛ لأن الشركة تنافي معنى العبادة، وإذا ثبت أنه عبادة فلا بد فيه من نية وعزيمة ممن هي عليه عند الأداء” ([16]).
القول الثاني: أن الزكاة حق مالي، وهو مذهب المالكية ([17]) والشافعية ([18]) الحنابلة.([19])
وقد أشار أبو عبيد القاسم بن سلام إلى تقرير هذا الأمر فقال: “ومما يباعد حكم الصلاة من الزكاة مثلا: أن الصلاة إنما هي حق يجب لله عز وجل على العباد فيما بينهم وبينه، وأن الزكاة شيء جعله الله حقا من حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، وإنما مثلها كالصبي يكون له المملوك، فتكون نفقة المملوك عليه في ماله، إن كان ذا مال، كما تجب على الكبير، وكذلك إن كانت لهذا الصبي زوجة زوجه إياها أبوه وهي كبيرة، فأخذته بالصداق والنفقة أن ذلك واجب على الصبي في ماله، وكذلك لو ضيع لإنسان مالا، أو خرق له ثوبا، كان عليه دينا في ماله؟ وأشباه لهذا كثيرة، فهذا أشبه بالزكاة من الصلاة؛ لأنهما جميعا من حقوق الناس، وليست الصلاة كذلك، بل هي حق لله خالص.([20])
الأدلة:
واستند الجمهور:
أولًا: أن الزكاة حق جعله الله من حقوق الفقراء في أموال الأغنياء([21])، قال الله سبحانه: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم).
ثانيًا: أن جمهور الصحابة على وجوب الزكاة على الصبي والمجنون([22])، وهما ليسا من أهل خطاب التكليف.
ثالثًا: أن للزكاة معنى معقولا وهو سدّ الخلّة والحاجة، ومع وجود معنى العبادة فيها إلا أن معنى الحق غالب([23])، قال الجويني: “الأصل في المعنى المعقول في الزكاة: أنه سدُّ حاجة، ولكن انضم إلى هذا الغرض المعقول تعبّدان: أحدهما -النية، فهي مرعية عند الإمكان، ولكن الزكاة قد تستقل بالغرض الظاهر، وهو سدّ الحاجة، ولذلك وجبت في مال الصبي، ويأخذها الإمام، من الممتنع. والمعنى الثاني -اتباع النصوص”([24]).
رابعا: ومما يدل عليه حصول مقصودها مع عدم نية الباذل، كما لو أخذها السلطان قهرا مع الامتناع، وجاز التوكيل في أدائها، وأيضا يحصل المقصود مع بذلها من غير صاحب المال، كتحمل الزوج عن زوجته والسيد عن عبده.([25])
خامسا: لأنها حق وجب للفقراء بتمليك الله لهم، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، وليس كلمة أبلغ من هذا في إثبات حق الفقراء.
ولأن الواجب هو التمليك، والحق في التمليكات لمن يقع له الملك، كما في سائر التمليكات.
ويدل عليه: أن الأملاك ثابتة للعباد لنفع العباد، والنفع للفقراء في الصدقات فيكون الحق لهم، والله تعالى يجل عن الانتفاع بشيء أو التضرر بشيء، فإذا وجب المال الذي يتطلب به النفع كان حقاً لمن له النفع، “فهذه كلمات في نهاية الوضوح، وتبين أن الزكاة حق الفقراء فصارت مؤنة مالية وجبت بملك المال، ومؤن المال يتبع وجوبها المال كسائر المؤن”([26]).
الأحكام الفقهية المترتبة على هذه المسألة
الفرع الأول: زكاة الصبي والمجنون
تحرير محل النزاع:
“اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية كالصلاة والصيام والحج، واتفقوا على وجوب الحقوق في أموالهم كالنفقات والأثمان، واختلفوا في الزكاة”([27]).
كما أجمعوا على وجوب الزكاة في مال الصبي في العُشر([28]).
واتفقت المذاهب الأربعة على وجوب زكاة الفطر في مال الصبي([29]).
واختلف الفقهاء هل تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون على قولين:
القول الأول: وجوب الزكاة في مالهما، وهو مذهب المالكية([30]) والشافعية([31]) والحنابلة([32]).
القول الثاني: عدم وجوب الزكاة فيه وهو مذهب الحنفية([33]).
الأدلة:
واستدلّ به الجمهور بما يلي:
-
عموم النصوص الدالة على وجوب أخذ الزكاة من كل مال دون تفريق بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون، ومنها قوله سبحانه: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وقوله e لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»([34]).
-
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي e خطب الناس فقال: “ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة”([35]).
-
قول عمر بن الخطاب قال: “اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة”([36]).
-
أنه قول سبعة من الصحابة([37]) وهم: عمر([38]) وعلي([39]) وعائشة([40]) وابن عمر([41]) وجابر بن عبد الله([42]) والحسن بن علي([43]).
-
القياس على وجوب الزكاة فيما أخرجته أرض اليتيم ووجوب صدقة الفطر في ماله([44]) وهو أمرٌ يقول به الحنفية([45]).
وناقش الحنفية ذلك: بأن “الخراج ليس بعبادة بل هو مؤنة الأرض”([46])
“وصدقة الفطر فلأنها مؤنة من وجه، قال النبي e: «أدوا عمن تمونون» فتجب بوصف المؤنة لا بوصف العبادة وهو الجواب عن العشر”([47]).
-
القياس على وجوب الحقوق المالية في أموال اليتامى، كالنفقات والديون وأروش الجنايات والإتلافات([48]).
واستدل الحنفية:
-
بقول النبي e: “بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا”([49]) “وما بني عليه الإسلام يكون عبادة، والعبادات التي تحتمل السقوط تُقْدَر في الجملة، فلا تجب على الصبيان كالصوم والصلاة”([50]).
-
“لا سبيل إلى الإيجاب على الصبي؛ لأنه مرفوع القلم بالحديث ولأن إيجاب الزكاة إيجاب الفعل، وإيجاب الفعل على العاجز عن الفعل تكليف ما ليس في الوسع، ولا سبيل إلى الإيجاب على الولي ليؤدي من مال الصبي؛ لأن الولي منهي عن قربان مال اليتيم إلا على وجه الأحسن بنص الكتاب، وأداء الزكاة من ماله قربان ماله لا على وجه الأحسن؛ لما ذكرنا في الخلافيات”([51])
-
قال السرخسي: “قوله -صلى الله عليه وسلم-«رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى ينتبه وعن المجنون حتى يفيق»، وفي إيجاب الزكاة عليه إجراء القلم عليه، فإن الوجوب يختص بالذمة ولا يجب في ذمة الولي فلا بد من القول بوجوبه على الصبي، وفيه يوجد الخطاب عليه”([52]).
-
ونوقش استدلالهم بالحديث بما يلي:
-
“أريد به رفع الإثم والعبادات البدنية، بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية”([53]).
-
هو مخصوص بوجوب الحقوق المالية في أموال اليتامى كالنفقات والديون وأروش الجنايات والإتلافات “والزكاةُ في المال في معناه، فنقيسها عليه”([54]).
-
“القياس على الصلاة على سبيل الخصوص، وقالوا: إنما تجب الزكاة على من وجب عليه فرض الصلاة”([55]).
-
قول علي وابن عباس فإنهما قالا: “لا تجب الزكاة على الصبي حتى تجب عليه الصلاة”([56]).
علاقة هذه المسألة بمسألة: هل الزكاة تجب في عين المال أو لها تعلّق بالذمة؟
مما يدل على هذا الترابط بين المسألتين:
-
استعمال الموجِبين للزكاة في مال الصبي القياسَ على الحقوق المالية الأخرى، كما تقدم.
-
ربط المسألتين ببعضهما نفيًا وإثباتًا. قال ابن قدامة مقرّرًا الإثبات: “الزكاة حق يتعلق بالمال، فأشبه نفقة الأقارب والزوجات، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات”([57])
وقال أبو المظفّر السمعاني: “وذمة الصبي محتملة للوجوب بدليل الغرامات والنفقة، وسائر مؤن المال تجب عليه كما تجب على البالغ، فأشبه الصبي البالغ في هذا الباب ولم يقع بينهما الفرق بوجه ما، فإذا وجب على أحدهما وجب على الآخر”([58]).
واللافت أن مذهب الحنفية المشهور هو تعلّق الزكاة بعين المال([59]) وفاقًا للمذاهب الثلاثة([60])، وهذا كأنه يُظهِر عدم التواؤم بين قولهم في المسألتين؛ لأن كون الزكاة عبادة محضة يناسبه إيجابها في الذمة، لا في المال، ويحتمل أن يكون لهم تأويل يجمعون به بين المسألتين والله أعلم.
الفرع الثاني: سقوط الزكاة بالموت
فلو وجبت الزكاة على أحد فمات، هل تسقط الزكاة بموته؟
أجمعوا أنه لو أخرجها في حال الحياة فإنها من رأس المال ولو كان في السياق([61]).
واختلفوا في سقوطها إذا لم يخرجها في حال حياته على قولين:
القول الأول: أن الزكاة تسقط وهو مذهب الحنفية([62]).
قال الكاساني في ذكر مسقطات الزكاة: “ومنها موت من عليه الزكاة من غير وصية عندنا.. وجملة الكلام فيه: أن من عليه الزكاة إذا مات قبل أدائها فلا يخلو إما أن كان أوصى بالأداء، وإما أن كان لم يوص، فإن كان لم يوص تسقط عنه في أحكام الدنيا حتى لا تؤخذ من تركته، ولا يؤمر الوصي أو الوارث بالأداء من تركته عندنا”([63])
واستدلوا:
-
بأن الزكاة عبادة والعبادة لا تتأدّى إلا باختيار من عليه إما بمباشرته بنفسه، أو بأمره، أو إنابته غيره فيقوم النائب مقامه فيصير مؤديا بيد النائب، وإذا أوصى فقد أناب وإذا لم يوص فلم ينب، فلو جعل الوارث نائبا عنه شرعا من غير إنابته لكان ذلك إنابة جبرية والجبر ينافي العبادة، إذ العبادة فعل يأتيه العبد باختياره، ولهذا قلنا إنه ليس للإمام أن يأخذ الزكاة من صاحب المال من غير إذنه جبرا.([64])
القول الثاني: عدم سقوط الزكاة، وهو مذهب المالكية([65]) والشافعية([66]) والحنابلة([67]).
واستدلوا:
-
بأن الزكاة حق الفقراء وغيرهم من المستحقين، وهو أسوة غيره من الحقوق التي لا تسقط بالموت.
-
أن الموت إنما يؤثر في عدم توجه التكليف لفوات النية، وليس له أثر في سقوط حق المستحق.
الفرع الثالث: انقطاع حول المال بموت المورث
اختلف في هذه المسألة على قولين:
اختلف العلماء في انقطاع الحول بموت رب المال:
القول الأول: أن الحول ينقطع، وهو مذهب الحنفية ([68])، والمالكية ([69])، والحنابلة ([70])، والوجه الأصح عند الشافعية([71]).
-
لأن ملكه قد زال، كما لو باعه([72]).
-
ولأن الزكاة عبادة؛ فيعتبر فيه جانب المؤدي وهو المالك، وقد زال ملكه بموته فينقطع حوله([73]).
القول الثاني: أن الحول لا ينقطع، بل يبني الوارث على حول مورثه، وهو وجه عند الشافعية([74]).
-
لأن ملك الوارث مبني على ملك المورث وليس بابتداء ملك؛ فالزكاة مؤونة الملك والمعتبر قيام نفس الملك، وهو قائم([75]).
ونوقش:
أن صفة المالكية للوارث متجددة، وفي حكم الزكاة المالك معتبر فلتجدد صفة المالكية، فيستقبل الحول في ملك الوارث ([76]).
-
القياس على الرد بالعيب، فإن الوارث يقوم مقام الموروث فيه، فكذلك في الزكاة([77]).
ونوقش:
بالفرق بين الزكاة والرد بالعيب، فالرد بالعيب حق للمال فانتقل إلى صاحب المال، وأما الزكاة فهي حق في المال([78]).
الفرع الرابع: زكاة المدين
جعل ابن رشد زكاة من عليه دين مبنية على هذه المسألة، فقال: “والسبب في اختلافهم؛ اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين؛ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده.
ومن قال هي عبادة قال: تجب على من بيده مال لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف، سواء كان عليه دين أو لم يكن، وأيضا فإنه قد تعارض هنالك حقان: حق لله، وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى”([79]).
وكذا قال الزنجاني الشافعي في تفريع هذه المسألة على هذا الأصل: “الزكاة تجب على المديون عندنا لاستغنائه بما في يده وتعلق الدين بذمته، وعندهم لا تجب لامتناع الارتياض في حقه لكونه مقهورا بالدين ممتنعا عن الطغيان”([80]).
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول:
تجب الزكاة على المدين وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان وربيعة الرأي وهو قول الشافعية.
واستدلوا:
-
قوله e: «في خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاة شاة»، ولم يفرق بين المال يكون أصله من الدين أو ملكا خالصا.([81])
-
ولأن الدين يجب في الذمة، والزكاة تجب في عين ماله، فلم يمنع أحدهما الآخر([82])، كما لو كان عليه دين وله عبد فجنى.([83])
القول الثاني: أنه لا تجب عليه الزكاة، وهو مذهب الحنفية([84]) والمالكية([85]) والحنابلة([86]) وهو قول الشافعيّ في القديم.([87])
-
لما جاء عن عثمان أنه قال: “هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليقضه، ثم ليزك بقية ماله”.([88])
-
ولأنه حق يتعلق بماله فمنع منه الدين كالحج.([89])
الفرع الخامس: زكاة مال الضمار([90])
من الفروع التي رتبها بعض أهل العلم على هذه المسألة: زكاة مال الضمار.([91])
فاختلف في المسألة على قولين:
القول الأول: عدم وجوب الزكاة فيه([92])، وهو مذهب الحنفية والمالكية([93]) ورواية عن أحمد، وهو قول قتادة واسحق وأبي ثور.([94])
واستدلوا:
-
ما روي مرفوعا أن رسول الله e أنه قال: «لا زكاة في مال الضمار»([95])، وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك؛ لعدم وصول يده إليها فكانت ضمارا.
-
ولأن المال إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيا، ولا زكاة على غير الغني.([96])
-
لأن هذا المال ليس سببا لوقوعه في الطغيان.([97])
-
ولأنه مال خرج عن يده وتصرفه، وصار ممنوعا منه، فلم يلزمه زكاته، كمال المكاتب.([98])
القول الثاني:
تجب فيه الزكاة، وهو مذهب الشافعي([99])، وهو رواية عن أحمد([100])، وهو قول الثوري وأبي عبيد.([101])
واستدلوا:
-
احتجاجا بعمومات الزكاة من غير فصل.
-
ولأن وجوب الزكاة يعتمد الملك دون اليد، بدليل ابن السبيل فإنه تجب الزكاة في ماله وإن كانت يده فائتة لقيام ملكه.
-
لأن ملكه عليه تام، فلزمته زكاته، كما لو نسي عند من أودعه، أو كما لو أسر، أو حبس، وحيل بينه وبين ماله.([102])
-
ولأنه مال له يملك المطالبة به ويجبر على التسليم إليه، فوجبت فيه الزكاة كالمال الذي في يد وكيله.”([103])
-
ولأنها تجب في الدين مع عدم القبض، وتجب في المدفون في البيت، فثبت أن الزكاة وظيفة الملك، والملك موجود فتجب الزكاة فيه، إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال لعجزه عن الأداء لبعد يده عنه وهذا لا ينفي الوجوب كما في ابن السبيل.
الفرع السادس: زكاة الحلي المباح
ممن أشار لتعلقها بالمسألة الزنجاني الشافعي حيث قال: “الزكاة لا تجب في الحلي المباح عندنا؛ لأنه متعلق حاجة المالك وفي ايجابها إبطال لمعنى المواساة، وعندهم([104]) تجب لأن حاجة التحلي لا تمنع من الوقوع في الطغيان فتجب الزكاة ليحصل الارتياض”.([105])
وقد اختلف في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول:
تجب فيها الزكاة، وهذا مذهب الحنفية([106])، وهو رواية عن أحمد([107])
واستدلوا:
-
قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم}، فعلق الوجوب بالاسم، وذلك موجود في الحلي([108])، وقد ألحق الوعيد الشديد بكنز الذهب والفضة وترك إنفاقهما في سبيل الله من غير فصل بين الحلي وغيره.([109])
-
ويدل عليه أيضًا قول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}؛ لأنه عموم في أصناف الأموال.([110])
-
وقول النبي e: «وأدّوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم»([111]) من غير فصل بين مال ومال.
-
وروي وجوب ذلك عن جمع من الصحابة، كعمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبي أمامة وعبد الله بن شداد وجابر([112])
-
ولأن الزكاة حكم تعلق بعين الذهب والفضة، فلا يسقط بالصنعة.
-
ولأن الشريعة لم تعتبر في الذهب والفضة مع اسم العين وصفا آخر لإيجاب الزكاة، فعلى أي وجه أمسكهما المالك للنفقة أو لغير النفقة تجب عليه الزكاة، ولو كان للابتذال فيهما عبرة لم يفترق الحال بين أن يكون محظورا أو مباحا كما في السوائم إذا جعلها حمولة.([113])
-
والاتفاق منعقد على وجوب الزكاة في الدراهم([114])، وإن لم ترصد للنماء: فعلمنا أن وجوب الزكاة فيها متعلق بأعيانها، لا بانضمام معنى آخر إليها، فوجبت في الحلي بوجوب العين. ([115])
-
ولأن الحلي مال فاضل عن الحاجة الأصلية إذ الإعداد للتجمل والتزين دليل الفضل عن الحاجة الأصلية فكان نعمة لحصول التنعم به فيلزمه شكرها بإخراج جزء منها للفقراء.([116])
القول الثاني: وهو مذهب مالك([117])، والشافعي([118])، وأحمد([119])، وإسحاق([120])، وأبو عبيد([121])، وهو قول جمع من الصحابة كما سيأتي، وقول أئمة من التابعين الحسن البصري وابن المسيب والشعبي.([122]) وهذا القول أرجح:
-
لأنه قول عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة رضي الله عنهم([123])، قال أحمد: خمسة من أصحاب رسول الله e يقولون: ليس في الحلي زكاة.([124])
-
ولأنه جنس مال تجب زكاته بشرطين فوجب أن يتنوع نوعين:أحدهما: تجب فيه، والثاني: لا تجب فيه كالمواشي التي تجب الزكاة في سائمتها وتسقط في المعلوفة منها.
-
ولأنه مبدل في مباح فوجب أن تسقط زكاته كالأثاث والقماش.
-
ولأنه معدول به عن النماء السائغ إلى استعمال سائغ، فوجب أن تسقط زكاته كالإبل العوامل، ويعتضد المعنى بأن النقد ليس نامياً في نفسه، وإنما يلتحق بالناميات، من جهة تهيُّئه للتصرف، فإذا اتُّخِذَ منها حلي، زال هذا المعنى.([125])
-
ولأنه معد للقنية كالعقار.([126])
-
ولأنه حلي مباح كاللؤلؤ.([127])
وأما الآثار التي ذكروها فلا يصح منها شيء، وقال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب شيء.([128])
الفرع السابع: الخلطة في الزكاة
ويقصد به أن يجتمع أصحاب الأموال فيما شأنه أن يخفف المؤنة كالدلو والراعي والمراح والفحل على تفاصيل عند الفقهاء في المؤثر من الأوصاف في ذلك، وهي التي يسميها الفقهاء خطة أوصاف([129])
والخليط: هو الذي لا يشارك صاحبه في الرقاب، ولكن يخالطه بالاجتماع والتعاون، ويختلف عن الشريك، فإن الشريك هو المشارك في الرقاب، والخليط الذي غنمه معروفة من غنم خليطه.([130])
فمن جعلها مؤونة مالية فالركن فيها المال ولا ينظر إلى المالك بل إلى المال، فسيجعل الخلطة مؤثرة فيها، ويكون المالان كمال واحد والمالكان كمالك واحد، ومن جعلها عبادة محضة وجعل الركن فيها الشخص المتعبد لم ير الخلطة مؤثرة، فإذا لم يكن كل واحد غنيا يملك النصاب لم يكن من أهل هذه العبادة.([131])
وقد اختلف في هذا على قولين:
القول الأول: وهو مذهب الحنفية، أن الخلطة لا أثر لها، بل يعتبر في حال الشركة ما يعتبر في حال الانفراد، وهو كمال النصاب في حق كل واحد منهما، فإن كان نصيب كل واحد منهما يبلغ نصابا تجب الزكاة وإلا فلا.([132])
-
لأن النبي e قال: «وسائمة الرجل إذا كان أقل من أربعين، فلا زكاة فيها»([133])
-
ولأن العبرة بالمالك، وهي عبادة، والركن فيها الشخص المتعبد.([134])
-
ولأن الخلطة لا تؤثر في الحول فكذلك في النصاب.([135])
-
ولأن الزكاة وظيفة الغني، وهذا ليس بغنى في حق كل واحد منهما”([136])، وغنى المالك بملك النصاب معتبر لإيجاب الزكاة، قال e: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى»([137])
-
ولأنه من نصيب شريكه أبعد من المكاتب من كسبه، فللمكاتب حق ملك في كسبه، وليس للشريك في نصيب شريكه حق الملك، فإذا لم تجب الزكاة على المكاتب باعتبار كسبه فلأن لا تجب على كل واحد من الشريكين باعتبار ملك صاحبه كان أولى.([138])
القول الثاني: أن الخلطة مؤثرة، وهو مذهب مالك([139]) والشافعي([140]) وأحمد.([141])، إلا أن مالكا يقول بأن الخليطين إذا كان كل واحد منهما لا يبلغ نصيبه نصابا فلا زكاة فيه، وهو اختيار ابن المنذر.([142])
-
لما روى البخاري في حديث أنس الذي ذكرنا أوله: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية”([143])، ولا يجيء التراجع إلا على القول بزكاة الخليطين.([144])
-
لأن للخلطة أثرا في تخفيف المؤنة على الخليطين، فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم والسقي”([145])
الفرع الثامن: تعجيل الزكاة قبل الحول:
ذكر ابن رشد في سبب الخلاف في هذه المسألة أنه مبني على كون الزكاة “عبادة أو حق واجب للمساكين؟ فمن قال عبادة وشبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع”.([146])
وقد أشار لنحو ذلك ابن العربي فقال: “كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه، كالصلاة والصوم والحج، وذلك بيّن، إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة لما كانت عبادة مالية، وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم؛ وهو سد خلة الفقير”([147]).
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: جواز تعجيل الزَّكاة: وذهب إليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق.([148])
وقد احتجّ أحمد([149]) على جواز التعجيل بحديث علي t في سؤال العباس عن تعجيل صدقته قبل أنْ تَحِلَّ، فرخّص له([150])، وفي رواية: تعجل صدقة عام أو صدقة عامين.([151])
واستدل الشافعي بتقديم ابن عمر لزكاة الفطر.([152])
واستدل أيضا بحديث أبي رافع أن النبي e استسلف من رجل بكرا، فجاءته إبل الصدقة فأمره e أن يقضيه إياها”.([153])
وقال في موطن آخر: « أن لله تبارك وتعالى حقا على العباد في أنفسهم وأموالهم: فالحق الذي في أموالهم إذا قدَّموه قبل محلّه: أجزأهم»([154])، وأيّده بذكر صور من تقديم الشريعة لبعض الواجبات المالية قبل تمام شروط وجوبها، كالمتاع قبل السَّراح، والكفَّارة قبل الحِنْث، ومثلها الزكاة([155])، وقال الخطابي: «الأجل إذا دخل في الشيء رفقاً بالإنسان؛ فإن له أن يسوس من حقه ويترك الارتفاق به، كمن عجل حقا مؤجلا لآدمي، وكمن أدى زكاة مال غائب عنه، وإن كان على غير يقين من وجوبها عليه، لأن من الجائز أن يكون ذلك المال تالفا في ذلك الوقت».([156])
ولأن في هذا القول مراعاة للفقراء؛ إذا حصلت المصلحة.
ولكن نصّ الحنابلة: على أن أداءها حين وجوبها أفضل، خروجا من الخلاف.([157])
وجماهيرهم: أن ما لا يشترط فيه الحول، لا يجوز تعجيله، خلافًا لبعض الشافعية في العشر.
وفي الخارج من الأرض نص الشافعية والحنابلة أنه يشترط أن يكون التعجيل بعد نبات الزرع وطلوع الطلع في النخل، لأنه إن عجل قبل عجله على سببه، فلم يجز، كمن يقدم زكاة المال على النصاب.([158])
القول الثاني: المنع من تقديم الزكاة، وهو مذهب مالك، وقول ربيعة وداود ([159])، وعندهم أن من تعجّلها قضاها.
وجوّز المالكية: تقديم زكاة العين والماشية بزمن يسير كشهر، مع الكراهة.([160])
ودليل المنع: حديث: “لا زكاة على مال حتى يحول عليه الحول”.([161])
واستدل مالك أيضا بأن “الذي أدّاها قبل أنْ يتقارب ذلك بمنزلة الذي يصلِّي الظهر قبل أن تزول الشمس”.([162])
والقول الأول أشبه بالصواب؛ فإن حديث المانعين فيه نظر من جهة الثبوت كما سبق، ولو صح فلا يدل على المطلوب، فقد يكون معنى الحديث بيان شرط الوجوب، فلا تجب الزكاة في المال حتى يحول عليه الحول، وليس يدل بالضرورة على أنه لا تجزئ قبل الحول، وقياسهم على الصلاة لا يسلم به لاختلاف الصورتين، فالسبب هنا في انعقاد وجوب الصلاة وهو: “المواقيت” غير معقول المعنى، بخلاف التوقيت بحولان الحول في الزكاة، فهو معقول المعنى، فإنه قد يقال في ذلك: أنه شرع هكذا لأنه الوقت الذي يمكن أن يدار فيه المال.
الفرع التاسع: إجزاء الزكاة إذا أخذت من الممتنع
ومن الفروع المترتبة على هذا الأصل مسألة: زكاة الممتنع هل تقع مجزئة أم لا؟
فنفى الإجزاء الحنفية، واستدلوا:
-
لأن الزكاة عبادة عندهم فلا بد أن يؤديها من عليه باختياره حتى تحصل منه العبادة.([163])
-
ولأن أخذها كرها لا يصح إلا لطالب معين، ومستحق الزكاة غير معين.
والجمهور من الفقهاء على أن للإمام أن يأخذها منه جبرا.([164])
واستدلوا:
-
بقوله e: «تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم».([165])
-
ومن جهة المعنى أنه حق من حقوق المال المحض تصح النيابة فيه مع العجز والقدرة فوجب أن يؤخذ جبرا عند الامتناع كديون الناس فيه.
-
ولقوله e: «من أعطاها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزيمة من عزمات ربنا».([166])
-
ولأنه حق في عين مال جعل إلى الإمام المطالبة به، فوجب أن يكون له إجبار من هو عليه إن امتنع من الأداء كالغصب والسرقة.
-
ولأن ما جاز للإمام أخذه بالطلب والتضييق جاز أخذه قهراً كحقوق الآدميين.
-
ولأنه حق من طريق المال المحض في أدائه النيابة مع العجز والقدرة، فوجب أن يؤخذ جبرا عند الامتناع من الأداء كالديون.([167])
-
وإنما تجزئ لأن تعذر النية في حقه أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون.([168])
والراجح أنها تؤخذ منه، ولكن لا تجزئ فيما بينه وبين الله تعالى إلا بنية، لأن الإمام إما وكيله، وإما وكيل الفقراء، أو وكيلهما معا، وأي ذلك كان فلا تجزئ نيته عن نية رب المال، وإنما أخذت منه مع عدم الإجزاء حراسة للعلم الظاهر كالصلاة يجبر عليها ليأتي بصورتها، ولو صلى بغير نية لم يجزئه عند الله تعالى، ومعنى قول الفقهاء: يجزئ عنه، أي في الظاهر، بمعنى أنه لا يطالب بأدائها ثانيا.([169])
الفرع العاشر: ضمان الزكاة عن غيره
إذا ضمن الزكاة عن غيره هل يصح الضمان؟
فيه قولان: أنها كالديون يجوز فيها الضمان، والثاني: لا يصح لأنها حق الله تعالى.([170])
ومن نحوها مسألة: أداء الزكاة عن غيره:
فلو حال الحول على مال الشريكين المفاوضين فإن أدى أحد منهم زكاة جميع المال بغير إذن صاحبه ضمن، لأن كل واحد منهما بسبب الشركة صار نائبا عن صاحبه في التجارات دون إقامة العبادات.([171])
الفرع الحادي عشر: إسقاط الزكاة بالجهل
فمن جعلها عبادة محضة فيترتب على قوله عدم وجوب إخراجها عن السنوات الماضية، وهو مذهب الحنفية، بل يُجرون عليها ما يجري على سائر العبادات من أن “توجه خطاب الشرع يتوقف على البلوغ إليه، ألا ترى أن أهل قباء كانوا يصلّون إلى بيت المقدس بعد تحوّل القبلة إلى الكعبة وجوّز لهم ذلك؛ لأنه لم يبلغهم، وهذا لأن التكليف بحسب الوسع، ولا وسع في حق العمل به قبل البلوغ إليه فصار كأن الخطاب غير نازل في حقه، وهذا لأن الخطاب غير شائع في دار الحرب؛ لأن أحكام الإسلام غير شائعة في دار الحرب لقيام الشيوع مقام الوصول إليه”([172])
وهذا بخلاف من رآها حقا ماليا فإنه لا يسقطها بالجهل، ولذا ذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها عليه، لأن الزكاة من أركان الإسلام، فلم تسقط عمن هو في غير قبضة الإمام، كالصلاة والصيام. ([173])
الفرع الثاني عشر: إذا عجل زكاةً ثم مات الفقير أو استغنى أو ارتد
مما ينبني على هذا الأصل مآل الزكاة إذا أصبح مستحقها غير مستحق مع حولان الحول، فمن قال هي عبادة محضة فيقول: لا يجوز له استرجاعها.([174])
وأما من رأى أنها مؤنة مالية فيقول باسترجاعها، لأن تعجيل الزكاة موقوف بين الإجزاء والاسترجاع، وذلك لا يجزي رب المال، فكان له الاسترجاع، فإن المقصود بتعجيل الزكاة إسقاط الفرض، فإذا لم يسقط وجب استرجاعها، كمن دفعها إلى رجل ظاهره الإسلام فبان كافرا، كان له استرجاعها، لأن إسقاط الفرض المقصود بالدفع لم يحصل، كذلك فيما عجل.([175])
الخاتمة
وتشتمل على النتائج والتوصيات:
أولا: النتائج:
-
جميع الفقهاء متفقون على وجود معنى العبادة في الزكاة، ولكن الحنفية غلّبوا معنى العبادة غالبًا، والمالكية والشافعية والحنابلة غلّبوا معنى كونها حقًّا ماليا في الغالب، وإن كان قد حصل لكلٍ منهما مخالفة لهذا الأصل، كما غلّب المالكية معنى التعبد فلم يجوزوا تعجيل الزكاة، وكما غلّب الحنفية الحق المالي في وجوب العشر على الصبي، وعدم سقوطه بالموت خلافًا لغيره من الأموال، بل غلب الحنفية معنى المالية فقالوا بجواز إخراج القيمة بدل العين في الزكاة، خلافًا لمذهب المالكية والشافعية والحنابلة، مع أن مقتضى الدوران مع معنى التعبّد هو المنع عند الحنفية والجواز عند الآخرين، وقد التبس هذا الفرع على ابن رشد فعلّل بالمعنى المشهور عن كل طائفة.([176])
وهذا يؤكّد النتيجة التالية وهي:
-
أن تقرير أصل لا يقتضي بالضرورة عدم الخروج عنه في بعض الفروع، وذلك لتخلّف شرط أو انتفاء مانع، إضافة إلى القرائن المحتفّة بالمسألة، وقد عبّر عنه بعض الفقهاء بأن لكل مسألة ذوقٌ خاصّ.
-
تعلّق مسألة هل الزكاة عبادة محضة أو حق مالي؟ بمسألة تعلّق الزكاة بعين المال أو بالذمة؟
ثانيًا: التوصيات
-
تكليف باحث متميّز بهذا البحث، وهو مناسب لدرجة الماجستير في أقسام الفقه، ونحوه، وقد يُحال ليكون بحثًا تكميليًّا في قسم الفقه بالمعهد العالي للقضاء، شريطة أن يكون الباحث جادًّا؛ لأن مقدار المسائل أكثر من العدد المطلوب بكثير.
-
تعلّق مسألة هل الزكاة عبادة محضة أو حق مالي؟ بمسألة تعلّق الزكاة بعين المال أو بالذمة؟ والمفترض اتضاح الصورة بشكل أجلى بعد الفراغ من بحث المسألة الثانية.