How Can We Help?
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أما بعد:
فإن الشارع عز وجل قد فرض الزكاة مواساة من الغني للفقير من ماله، وقيامه بنفسه على سد حاجة أخيه وإغنائه. ولما كانت الزكاة مبناها على المواساة والعدل كان من تيسير الله عز وجل ورحمته أن لم يفرض الزكاة في كل مال، بل فرضها في نوع محدد من الأموال، تتسم في مجملها بالنماء حقيقةً أو تقديرًا، حتى يخرج المكلف الزكاة من نماء ماله قليلًا من كثير. كما أنها تتسم –في الجملة- باعتبار الكلفة والمؤونة والتعب مقابل القدر المأخوذ فيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: ” وقد أفهم الشرع أنها شرعت للمواساة ولا تكون المواساة إلا فيما له مال من الأموال فحد له أنصبة ووضعها في الأموال النامية، فمن ذلك ما ينمو بنفسه؛ كالماشية والحرث، وما ينمو بتغير عينه والتصرف فيه؛ كالعين، وجعل المال المأخوذ على حساب التعب، فما وجد من أموال الجاهلية هو أقله تعبا ففيه الخمس، ثم ما فيه التعب من طرف واحد فيه نصف الخمس وهو العشر فيما سقته السماء، وما فيه التعب من طرفين فيه ربع الخمس وهو نصف العشر فيما سقي بالنضح، وما فيه التعب في طول السنة كالعين ففيه ثمن ذلك وهو ربع العشر”([1]).
وفي هذا البحث سوف نتكلم عن خصائص كل نوع من الأموال الزكوية في الشريعة.
خطة البحث:
المبحث الأول: خصائص النقدين.
المبحث الثاني: خصائص بهيمة الأنعام.
المبحث الثالث: خصائص عروض التجارة.
المبحث الرابع: خصائص الزروع والثمار.
المبحث الخامس: خصائص الركاز.
المبحث السادس: خصائص المعادن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول: خصائص النقدين.
أوجبت الشريعة الزكاة في النقدين، وبالتمعن في كلام الفقهاء حول سر تشريع الزكاة فيها نجدهم قد عبروا عن ذلك بأوصاف متعددة تنحصر في كونهما ثمنا للأشياء، وقيًما، وكونهم ذا نماء ذاتي.
ومن الأوصاف التي يعبرون بها عن ذلك:
-
وصف (الثمنية)، يقول أبو عبيد في بيان دليل من قال بضم الذهب والفضة في الزكاة: ” وأما الذي ذهب إلى ضم الأقل إلى الأكثر، فإنه يجعلهما مالا واحدا يقول: رأيت الدراهم والدنانير ثمنا للأشياء، ولا تكون الأشياء ثمنا لهما”([2])
ويقول ابن قدامة: “الزكاة إنما وجبت في الأثمان لكونها ثمنا، وهذا المعنى يشملها، بخلاف غيرها”.([3])
-
وصف (المالية)، يقول السرخسي: “الذهب والفضة وإن كانا جنسين مختلفين صورة ففي حكم الزكاة هما جنس واحد حتى يتفق الواجب فيهما فيتقدر بربع العشر على كل حال ووجوب الزكاة فيهما باعتبار معنى واحد وهو المالية القائمة باعتبار أصلهما”.([4])
ويقول في موضع آخر: “ فإن الأموال أجناس باعتبار أعيانها، جنس واحد باعتبار صفة المالية فيها”.([5])
ويقول: “فإن الذهب والفضة، وإن كانا جنسين صورة، في معنى المالية هما جنس واحد على معنى أنه تقوم الأموال بهما، وأنه لا مقصود فيهما سوى أنهما قيم الأشياء وبهما تعرف خيرة الأموال ومقاديرها، ووجوب الزكاة باعتبار المالية قال الله تعالى: {في أموالهم حق معلوم} [المعارج: 24] {للسائل والمحروم} [المعارج: 25]”.([6])
ويقول البلدحي الحنفي عن النقدين: “والزكاة تعلقت بهما باعتبار المالية والثمنية”.([7])
-
وصف (القيمة)، يقول ابن قدامة: “نفعهما واحد، والمقصود منهما متحد. فإنهما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وأثمان البياعات .. والمقصود منهما جميعا الثمنية والتوسل بها إلى المقاصد، وهما يشتركان فيه على السواء”.([8])
-
وصف (المعاملة)، يقول ابن رشد في توجيه قول القائلين بوجوب الزكاة في الحلي: “ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود فيها المعاملة بها أولًا قال: فيه الزكاة” ثم قال: “وأعني بالمعاملة: كونها ثمنا”.([9])
-
وصف كونها (رؤوس أموال)، يقول ابن رشد في بيان سبب اختلاف في مسألة ضم الذهب والفضة في الزكاة: “وسبب اختلافهم: هل كل واحد منهما يجب فيها الزكاة لعينه أم لسبب يعمهما، وهو كونهما كما يقول الفقهاء رءوس الأموال وقيم المتلفات؟”([10])
-
وصف ( الصلاحية للإنفاق)، يقول الإمام أبو عبيد: “العين والورق لا يصلحان لشيء من الأشياء، إلا أن يكونا ثمنا لها، ولا ينتفع منهما بأكثر من الإنفاق لهما”.([11])
-
وصف (الإعداد للتقلب والتصرف)، ويقول السرخسي: “الدرهم مخلوق للتقلب والتصرف معد له“.([12])
-
وصف (الإعداد للتجارة بأصل الخلقة). يقول الكاساني: “هما مالان متحدان في المعنى الذي تعلق به وجوب الزكاة فيهما وهو الإعداد للتجارة بأصل الخلقة والثمنية فكانا في حكم الزكاة كجنس واحد”.([13])، ويقول ابن قدامة: “ الأصل وجوب الزكاة فيها، لكونها مخلوقة للتجارة، والتوسل بها إلى غيرها”.([14])
-
وصف (الأصل في الأثمان التنمية)، ويقول السرخسي: “وأما الذهب والفضة فخلقا جوهرين للأثمان لمنفعة التقلب والتصرف فكانت معدة للنماء على أي صفة كانت فتجب الزكاة فيها”.([15])
المبحث الثاني: خصائص بهيمة الأنعام.
وأما بهيمة الأنعام فإن الشريعة أوجبت الزكاة فيها لوصف النماء كذلك، ولكن نوع النماء فيها ليس في قيمتها وإنما في نماء عينها بالدر والنسل، ولذا ذهب جماهير أهل العلم خلافًا للحنفية إلى أن الزكاة تجب في عينها دون قيمتها.
كما أنه لا تجب الزكاة فيها إلا إذا كانت سائمة عند الجمهور، وفي ذلك اعتبار لوصف الكلفة والمؤونة في تشريعها.
فالحاصل أن لبهيمة الأنعام في الزكاة عدة خصائص:
-
تعلق الزكاة بعينها وصورتها، فإن اعتبار ذلك دائر في كل العبادات التي جاء فيها تعلق بالبهائم، كالأضحية والعقيقة ونسائك الحج والعمرة، بما يدل على أن هذا النوع من البهائم له التفات خاص في التشريع. ويقول السرخسي: “وجوب الزكاة في السائمة باعتبار العين حتى يعتبر نصابه من العين والنماء فيه مطلوب من العين”([16])، ويقول البلدحي الحنفي: “السوائم تعلقت الزكاة بها باعتبار العين والصورة“([17])، ويقول الكاساني في سبب عدم ضم السوائم إلى بعضها: “ الحكم متعلق بالصورة والمعنى وهما مختلفان صورة ومعنى فتعذر تكميل نصاب أحدهما بالآخر”.([18])
-
اشتراط النماء فيها وذلك بكونها سائمة، لكمال نمائها بالدر والنسل، يقول: البلدحي: “السوم إنما أوجب الزكاة لحصول النماء وخفة المئونة”([19])، ويقول في بيان سبب عدم وجوب الزكاة في المعلوفة: “ولأن النماء منعدم فيها؛ لأن المؤونة تتضاعف بالعلف فينعدم النماء معنى، والسبب المال النامي”.([20])
-
النماء بالدر والنسل هو النماء المقصود عند أغلب العلماء، ولذا لا تجب في الإناث الخلص؛ لعدم التوالد، وفي رواية عن أبي حنيفة أن النماء باللحم مقصود كذلك.
-
أنه قد يلجأ إلى القيمة في بعض الأحيان كما في الجبران، فيلجأ الساعي إلى الجبران بالقيمة بحسب الغلاء والرخص عند الحنفية، خلافًا للشافعية الذين يرون الجبران مقدرًا بشاتين أو عشرين درهمًا، يقول السرخسي: “إنما اعتبر رسول الله r بهذا المعادلة في المالية معنى، فإن الإناث من الإبل أفضل قيمة من الذكور والمسنة أفضل قيمة من غير المسنة فأقام رسول الله r زيادة السن في المنقول إليه مقام زيادة الأنوثة في المنقول عنه ونقصان الذكورة في المنقول إليه مقام نقصان السن في المنقول عنه ولكن هذا يختلف باختلاف الأوقات والأمكنة فلو عينا أخذ ابن اللبون من غير اعتبار القيمة أدى إلى الإضرار بالفقراء أو الإجحاف بأرباب الأموال”.([21])
-
العفو بين الأنصبة وهو ما يسمى (الوقص) وهو: ما بين الفريضتين من نصاب الزَّكاة مما لا شيء فيه، كالزِّيادة على الخمس من الإبل إلى التِّسع، والزيادة على العشر إلى أربع عشرة.
-
إلحاق النماء بالأصل في الحول والنصاب.
-
منع التشقيص فيها؛ تيسيرًا على أرباب الأموال، يقول الجويني: “والمعنى الضابط فيه أن الإبل قد بلغ دون الخمس والعشرين مبلغاً يحتمل المواساة، ولم ير الشارع أن يوجب فيما دون الخمس والعشرين بعيراً، فيكون إجحافاً برب المال، ولم يرَ أن يوجب شقصاً من بعير؛ لما في التشقيص من التعذر، ونقصان القيمة؛ فعدل عن جنس الإبل إلى الغنم، فأوجب في خمس شاةً، وفي عشرين أربعَ شياه”.([22])
-
أن نسبة الزكاة المفروضة فيها تساوي نسبة الزكاة المفروضة في النقدين وعروض التجارة وهي ربع العشر، يقول القفال: “ثم خص بذلك الأموال النفيسة العالية التي لها الرياسة في جنسها، وكان لا شك أن أعلاها وأجلها هو الذهب والفضة، احتمل أن يكونا أصلين كسائر ما تجب فيه الزكاة والصدقة من سائر الأموال، والواجب أن يكون سواهما معتبر بهما، فإذا قدرا بربع العشر كان هذا المقدر هو الأصل في جميع مقادير الزكوات المشروعة والزروع وغيرها، وقد قصد الشافعي هذا المعنى فقال في صدقة المواشي والزروع ما معناه: “إنه لا ينبغي لمن عنده أصناف من الأموال أقل مما يشبه ربع العشر”، وعلى هذا الاعتبار إذا فرض في خمس من الإبل شاة، وقيمة الصدقة عشرة دراهم على ما قد روي منه في الخبر، فمن وجب عليه سن من الإبل فلم يكن في ماله وعنده من أعلى أسنانه، يعطي الأعلى ويأخذ شاتين أو عشرين درهما، كانت قيمة الخمس من الإبل أربعمائة درهم، وخليق أن يكون هذا مما لا يبعد، وهو أن يؤخذ خمس وسط من العراب بأربع مائة درهم، وأن يكون هكذا مع من في ذلك العصر، وكان على ما يقرب منه، ولا يفرط بعده عنه، وهكذا في زكاة الغنم في كل أربعين شاة، فهذا على ربع العشر، ثم كان في زكاة البقر في كل ثلاثين تبيع، فلا يبعد أن يكون قيمة التبيع خمسة دراهم، وقيمة الثلاثين بقرة أربعمائة درهم، فيكون جميع زكوات النقود والمواشي مطردا على ربع العشر“.([23])
-
أخذ الوسط من المال، يقول البلدحي الحنفي: “ويأخذ المصدق وسط المال”، لقوله r: «خذ من حواشي أموالهم» أي الوسط، ولأن أخذ الجيد إضرار برب المال، وأخذ الرديء إضرار بالفقراء، فقلنا بالوسط تعديلا بينهما، ولا يأخذ الربي ولا الماخض، ولا فحل الغنم، ولا الأكولة لما ذكرنا، ولقوله – عليه الصلاة والسلام -: «إياكم وكرائم أموال الناس» وقال عمر – رضي الله عنه -: عد عليهم السخلة ولو جاء بها الراعي على يديه، ألسنا تركنا لكم الربي والأكولة والماخض وفحل الغنم؟”.([24])
ويقول ابن قدامة: “وإن كان أنواعا، أخذ من كل نوع ما يخصه. هذا قول أكثر أهل العلم. وقال مالك، والشافعي: يؤخذ من الوسط. وكذلك قال أبو الخطاب، إذا شق عليه إخراج زكاة كل نوع منه.
قال ابن المنذر: وقال غيرهما: يؤخذ عشر ذلك من كل بقدره. وهو أولى؛ لأن الفقراء بمنزلة الشركاء، فينبغي أن يتساووا في كل نوع منه، ولا مشقة في ذلك، بخلاف الماشية إذا كانت أنواعا، فإن إخراج حصة كل نوع منه يفضي إلى تشقيص الواجب، وفيه مشقة بخلاف الثمار، ولهذا وجب في الزائد بحسابه”.([25])
-
أن الأصل فيها اتسامها بالاستبقاء([26]).
المبحث الثالث: خصائص عروض التجارة.
أوجبت الشريعة الزكاة في عروض التجارة، وألحقت أحكام زكاتها في بعض جوانبها بزكاة النقدين، ومن أهم الخصائص التي اتسمت بها عروض التجارة:
-
تعلق الزكاة فيها بالقيمة والثمن، فالزكاة تجب في قيمة العروض لا في نفسها، والقيمة هي الأثمان، وبناء على ذلك فإنها هي والأثمان تعتبر جنسًا واحدًا.
والأصل في ذلك حديث حماس قال: مر بي عمر، فقال: يا حماس، أد زكاة مالك. فقلت: ما لي مال إلا جعاب وأدم. فقال: قومها قيمة، ثم أد زكاتها([27]).
وعن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد أنه قال في مثل ذلك: قومه بنحو من ثمنه يوم حلت فيه الزكاة، ثم أخرج زكاته([28]).
وعن إبراهيم، قال: يقوم الرجل متاعه إذا كان للتجارة، إذا حلت عليه الزكاة، فيزكيه مع ماله([29]).
ولذا ذهب جماهير أهل العلم إلى عدم انقطاع الحول فيما لو اشترى عرضًا للتجارة بنصاب من الأثمان، أو باع عرضًا تجاريًا بنصاب؛ لاتحادهما في وصف (الثمنية).
ولكونها أثمانًا تجب الزكاة في أصولها سواء ربحت أو خسرت؛ لأن الزكاة قد تعلقت بقيمتها.
يقول ابن قدامة: ” الزكاة تجب في قيمة العروض، لا في نفسها، والقيمة هي الأثمان، فكانا جنسا واحدا”([30]). ويقول: “مال التجارة إنما تتعلق الزكاة بقيمته، وقيمته هي: الأثمان نفسها”([31]).
ويقول أبو عبيد: ” فزكاة التجارات على القيم”([32]).
ويقول أبو المعالي الحنفي: “وجوب الزكاة في عروض التجارة وانعقاد الحول عليه باعتبار القيمة”([33]).
ويقول السرخسي: “وجوب الزكاة في عروض التجارة باعتبار ماليتها دون أعيانها”([34]). ويقول في موضع آخر: “المعتبر في مال التجارة صفة المالية دون العين حتى يعتبر النصاب من قيمته”([35]).
-
أن الأصل فيها بعد إعدادها للبيع التنمية، وذلك لانقلابها قيما، فتعتبر حينئذ أثمانًا، والأثمان نامية تقديرًا؛ فكذلك العروض.
يقول أبو عبيد: “وأما أموال التجار فإنما هي للنماء وطلب الفضل”([36]).
-
تبعية النماء للأصل.
يقول ابن قدامة: “وإذا كان في ملكه نصاب للزكاة، فاتجر فيه، فنما، أدى زكاة الأصل مع النماء، إذا حال الحول وجملته أن حول النماء مبني على حول الأصل؛ لأنه تابع له في الملك، فتبعه في الحول؛ لأنه نماء جار في الحول، تابع لأصله في الملك، فكان مضموما إليه في الحول، كالنتاج، وكما لو لم ينض. ولأنه ثمن عرض تجب زكاة بعضه، ويضم إلى ذلك البعض قبل البيع، فيضم إليه بعده كبعض النصاب. ولأنه لو بقي عرضا زكى جميع القيمة، فإذا نض كان أولى؛ لأنه يصير متحققا. ولأن هذا الربح كان تابعا للأصل في الحول، كما لو لم ينض، فبنضه لا يتغير حوله”([37]).
-
أن الأصل فيها اتسامها بالاستبدال والتقليب؛ لتحقيق المقصود منها وهو الاسترباح.
يقول السرخسي: ” الاستبدال يحقق ما هو المقصود من مال التجارة وهو الاسترباح”([38]).
ولذا فلا ينقطع الحول باستبدال عروض التجارة؛ لأن الاسترباح فيها لا يتحقق إلا بذلك، بخلاف السائمة مثلًا، فإن مقصود أصحاب السوائم استبقاؤها في ملكهم عادة، وببقائها يتحقق لهم النماء فيها.
-
أن يكون تملُّك العرض حاصلًا بعقد معاوضة عند جمهور أهل العلم، واشترط الحنفية([39]) والمالكية([40]) أن يكون عقد معاوضة مالية؛ وأما الشافعية([41]) فاشترطوا أن يكون تملكه للعرض في عقد معاوضة محضة أو غير محضة. وأما الحنابلة فاشترطوا أن يكون تملكه للعرض بفعله([42])، وفي رواية عن الإمام أحمد أنه لا يشترط في تملكه أي شرط، بل يصير العرض للتجارة بمجرد نية التجارة([43]).
يقول ابن قدامة: “قال بعض أصحابنا: هذا على أصح الروايتين؛ لأن نية القنية بمجردها كافية، فكذلك نية التجارة، بل أولى؛ لأن الإيجاب يغلب على الإسقاط احتياطا، ولأنه أحظ للمساكين، فاعتبر كالتقويم، ولأن سمرة قال: «أمرنا رسول الله r أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع.» وهذا داخل في عمومه، ولأنه نوى به التجارة، فوجبت فيه الزكاة، كما لو نوى حال البيع.
ولنا، أن كل ما لا يثبت له الحكم بدخوله في ملكه، لا يثبت بمجرد النية، كما لو نوى بالمعلوفة السوم، ولأن القنية الأصل، والتجارة فرع عليها، فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية، كالمقيم ينوي السفر، وبالعكس من ذلك ما لو نوى القنية، فإنه يردها إلى الأصل، فانصرف إليه بمجرد النية، كما لو نوى المسافر الإقامة. فكذلك إذا نوى بمال التجارة القنية، انقطع حوله، ثم إذا نوى به التجارة، فلا شيء فيه حتى يبيعه، ويستقبل بثمنه حولا”([44]).
-
أن الأصل في العروض قبل إعدادها للبيع أنها للقنية.
يقول ابن قدامة: “القنية الأصل، والتجارة فرع عليها”([45])، ولذا فلا ينصرف العرض إلى التجارة بمجرد النية عند جمهور أهل العلم؛ لأن القنية الأصل، والتجارة فرع عليها، فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية.
يقول الباجي:”الأموال على ضربين:
-
أ- مالٌ أصله التجارة؛ كالذهب والفضة فهذا على حكم التجارة حتى ينتقل عنه.
-
ب- ومال أصله القنية؛ كالعروض والثياب وسائر الحيوان والأطعمة فهذا على حكم القنية حتى ينتقل عنه.
فما كان أصله التجارة لم ينتقل إلى القنية إلا بالنية والعمل، والعمل المؤثر في ذلك الصياغة.
وما كان أصله القنية لم ينتقل إلى التجارة إلا بالنية والعمل، والعمل المؤثر في ذلك الابتياع فمن اشترى عرضا ولم ينو به تجارة فهو على القنية حتى يوجد منه نية التجارة.
ومن ورث عرضا ينوي به التجارة فهو على القنية؛ لأنه لم يوجد منه عمل ينقله إلى التجارة فإذا ابتاعه للتجارة فقد اجتمع فيه النية والعمل فثبت له حكم التجارة”([46]).
-
أن القيمة المعتبرة في تقييمها هي القيمة السوقية يوم حولان الحول.
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنها تقوَّم بالسعر الحالي الذي تباع به السلعة في السوق عند وجوب الزكاة بها، وقد جاء عن جابر بن زيد من التابعين في عرض يراد به التجارة: قوِّمه بنحو من ثمنه يوم حلّت فيه الزكاة، ثم أخْرِج زكاته.([47])
-
تخفيف نسبة الزكاة فيها؛ مراعاة للمشقة والمعاناة في اكتسابها.
يقول ابن القيم: “ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشق الأشياء وأكثرها معاناة وعملًا خفَّفها بأن جعل فيها ربع العشر”([48]).
المبحث الرابع: خصائص الزروع والثمار.
-
أن الشريعة لم تفرض زكاة الثمار والحبوب في كل خارج من الأرض عند الجماهير، ولكن اقتصرت على ما تتم منفعته، لأن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما فيه صفة زائدة على كونه نباتا؛ بكونه قوتا أو مطعوما أو مدخرا على تفاصيل عند الفقهاء([49])، لأن ذلك أنفس الزروع، والزكاة بأنفس الأجناس([50])، “لأنه وصف مناسب في الاقتيات من حفظ الأجساد التي هي سبب مصالح الدنيا والآخرة وإذا عظمت النعمة وجب الشكر بدفع الزكاة”([51]).
-
أنه يشترط فيه النصاب عند الجماهير؛ “ليتحقق الغنى كسائر الصدقات”([52]).
-
أن تأقيت وقت الوجوب بالحصاد لا بالحول؛ لأن الحصاد مبدأ الغنى([53]).
-
أن الشريعة فرضتها في أكثر الأموال دورانا بين الخلق، وحاجتهم إليها ضرورية([54]).
-
اعتبار الكلفة والمؤونة في القدر الواجب فيها.
يقول ابن القيم: ” ثم قسّم الزروع والثمار إلى قسمين: قسمٌ يجري مجرى السائمة من بهيمة الأنعام في سقيه من ماء السماء بغير كلفة ولا مشقة فأوجب فيه العشر، وقسم يُسقى بكلفة ومشقة ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة بكثير إذ تلك تحتاج إلى العلف كل يوم فكان مرتبة بين مرتبة السائمة والمعلوفة، فلم يوجب فيه زكاة ما شَرِب بنفسه، ولم يسقط زكاته جملة واحدة، فأوجب فيه نصف العشر”([55]).
ويقول في موضع آخر: ” ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها، وسهولة ذلك ومشقته .. وأوجب نصفه وهو العشر فيما كانت مشقة تحصيله وتعبه وكلفته فوق ذلك، وذلك في الثمار والزروع التي يباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها، ويتولى الله سقيها من عنده بلا كلفة من العبد، ولا شراء ماء، ولا إثارة بئر ودولاب.
وأوجب نصف العشر فيما تولى العبد سقيه بالكلفة والدوالي والنواضح وغيرها. وأوجب نصف ذلك وهو ربع العشر فيما كان النماء فيه موقوفا على عمل متصل من رب المال بالضرب في الأرض تارة، وبالإدارة تارة، وبالتربص تارة، ولا ريب أن كلفة هذا أعظم من كلفة الزرع والثمار”([56]).
ويقول الدهلوي: “فيما سقت السماء والعيون – أو كان عشريا – العشر، وما سقى بالنضح نصف العشر، فإن الذي هو أقل تعانيا وأكثر ريعا أحق بزيادة الضريبة، والذي هو أكثر تعانيا وأقل ريعا أحق بتخفيفها”([57]).
المبحث الخامس: خصائص الركاز.
أوجب الفقهاء في الكنوز الخُمُس على من وجدها، لما روى أبو هريرة t أن النبي r قال: “في الركاز الخمس”([58])، والمدفون في الأرض ركاز بالإجماع؛ لأنه مركوز فيها.
وله خصائص تميّز بها عن غيره فمنها:
-
علو نسبة الزكاة فيه، وذلك لقلة الكلفة والمؤنة في تحصيله.
يقول ابن تيمية: “وجعل المال المأخوذ على حساب التعب فما وجد من أموال الجاهلية هو أقله تعبا ففيه الخمس”([59]).
يقول ابن القيم: “ثم لما كان الرِّكازُ مالًا، مجموعًا محصلًا وكلفَة تحصيله أقل من غيره، ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس”([60]).
ويقول: “ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها، وسهولة ذلك ومشقته، فأوجب الخمس فيما صادفه الإنسان مجموعا محصلا من الأموال وهو الركاز. ولم يعتبر له حولا، بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به”([61]).
ويقول القرافي: “متى كثرت المؤنة خفت الزكاة رفقًا بالعباد، ومتى قلت؛ كثرت الزكاة؛ ليزداد الشكر لزيادة النعم، ونظيره الزكاة في المعدن والخمس في الركاز”([62]).
ويقول الدهلوي: “وفي الركاز الخمس؛ لأنه يشبه الغنيمة من وجه، ويشبه المجان؛ فجعلت زكاته خمسا”([63]).
-
وجوب الزكاة فيه فور الحصول عليه من غير تأقيت بحول؛ لخفة المؤنة في تحصيله([64]).
-
عدم اشتراط النصاب فيه عند الجمهور؛ لأنه مال ظهر عليه بغير جهد ومؤونة، فلم يحتج إلى التخفيف بإعفاء القليل منه([65])، ولأنه “مال كافر مظهور عليه في الإسلام، فأشبه الغنيمة، والمعدن والزرع يحتاج إلى عمل ونوائب، فاعتبر فيه النصاب تخفيفًا، بخلاف الركاز، ولأن الواجب فيهما مواساة، فاعتبر النصاب ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه، بخلاف مسألتنا”([66]).
-
توسع الحنفية في الركاز فأدخلوا فيه المعادن، فجعلوا أحكام الركاز للمعادن المستخرجة من باطن الأرض، فلم يشترطوا فيها النصاب، وأوجبوا فيها الخمس([67]).
المبحث السادس: خصائص المعادن.
-
تردد شبهه بين الخارج من الأرض وبين النقود، ولذلك اختلف العلماء في بعض أحكامه كاشتراط الحول والنصاب من عدمه، وماهية الذي يزكى منه، يقول ابن رشد: “المعدن راعى الشافعي فيه الحول مع النصاب، وأما مالك فراعى فيه النصاب دون الحول. وسبب اختلافهم: تردد شبهه بين ما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة وبين التبر والفضة المقتنيين، فمن شبهه بما تخرجه الأرض لم يعتبر الحول فيه، ومن شبهه بالتبر والفضة المقتنيين أوجب الحول، وتشبيهه بالتبر والفضة أبين”([68]).
-
أن الزكاة تتعلق بكل ما يخرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة عند الحنابلة، وأما مالك والشافعي فحصرا الزكاة في الذهب والفضة، وفرق الحنفية بين ما ينطبع وما لا ينطبع([69]).
وتوسع آخرون فأوجبوا الزكاة فيما يستخرج من البحر كذلك؛ تشبيهًا بما يخرج من البر من المعادن، فرأوهما بمنزلة واحدة.
يقول أبو عبيد: “وإنما يوجب الخمس فيما يخرج من البحر من أوجبه تشبيهًا بما يخرج البر من المعادن، فرآهما بمنزلة واحدة”([70]).
فمن رأى فيها الزكاة؛ قاسها على الثروة المعدنية التي وردت فيها النصوص، بجامع أنها أشياء لها مالية، وذات قيمة ونفاسة تستخرج من باطن الأرض، قد ركزها الله فيها؛ كالمعدن؛ فتجب فيه الزكاة.
ويقول البلدحي الحنفي في زكاة المستخرج من البحر: “وقال أبو يوسف: فيه الخمس؛ لأن عمر كان يأخذ الخمس من العنبر. واللؤلؤ أشرف ما يوجد في البحر، فيعتبر بأشرف ما يوجد في البر وهو الذهب والفضة. ثم قيل اللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصدف فيصير لؤلؤا”([71]).
-
اشتراط النصاب فيه عند الجمهور خلافًا للحنفية الذين يلحقونه بالركاز فلا يشترطونه([72]).
-
أن نسبة الزكاة فيه ربع العشر عند الجمهور؛ قياسا على النقدين([73])، وأما المالكية فجعلوا ذلك باعتبار الكلفة والمؤونة، فما كان يتكلف فيه مؤونة وعملًا فهذا لا خلاف في أنه لا يجب فيه غير ربع العشر، وأما ما كان لا يتكلف فيه ذلك ففيه الخمس.
والذي دعاهم إلى التفريق هو: التوفيق بين الأحاديث التي تفيد أن في الذهب والفضة ربع العشر -وهما معدنان فيقاس عليهما بقية المعادن – والأحاديث التي تفيد أن في المعدن الخمس، وأنه ركاز أو كالركاز، ومن جهة أخرى القياس على الزرع حيث اختلف مقدار الواجب فيه باختلاف الجهد ([74]).
-
وجوب الزكاة فيه فور استخراجه، ولا يشترط له الحول عند جمهور أهل العلم([75]).