How Can We Help?
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه.
أما بعد: فهذا ورقة فقهية في مسائل وأحكام: (جر النفع إلى النفس عند وجود التهمة وتعارض المصالح)، وهي مسألة من مهمات المسائل لاسيما أن مثلها مما تزيغ عنها أبصار بعض المختصين من المباشرين لمصالح الأمة، وسينظم هذا البحث على المسائل الآتية:
أحكام جر النفع إلى النفس في الشهادة:
-
شهادة الشريك لشريكه.
-
شهادة من يستحق مغنمًا على إثبات مغنم.
-
شهادة أهل السكة على شيء من مصالحها.
-
شهادة أرباب الأموال على السعاة.
-
شهادة الرعية لكل من له ولاية.
-
شهادة أهل القرية على وقف مدرسة.
-
شهادة الأقارب لبعضهم.
حكم جر النفع إلى النفس في الزكاة:
2،1 حكم دفع الزكاة للقريب.
حكم إسقاط الدين من الزكاة.
حكم جر النفع إلى النفس في الوكالة:
3،1 حكم تعاقد الوكيل مع نفسه إذا أذن الموكل له.
3،2 حكم تعاقد الوكيل مع نفسه إذا أطلق الموكل، ولم ذكر له منعًا أو إذنًا.
حكم جر النفع إلى النفس في الفتيا:
4،1 حكم أخذ العوض على الفتوى.
4،2 أخذ العوض في الإفتاء في القنوات ووسائل التواصل
4،2 أخذ العوض مقابل الفتيا في الهيئات العلمية.
الخاتمة.
تمهيد: مقصود جر النفع:
مسألة بحثنا هنا: هو جر النفع للنفس الذي يجتمع معه معنى وجود التهمة.
ولتصور المسألة فلابد من ضبط حد التهمة في الشريعة عند الفقهاء. والتهمة عندهم: تطرق الظنةٍ بالسوء في فعل الفاعل، إما من جهة إرادة جر النفع لنفسه أو دفع الضر عنها بذلك الفعل.([1])
وقد قسّم العز بن عبد السلام التهمة من جهة القوة والضعف إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: تهمة قوية، كحكم الحاكم لنفسه، وشهادة الشاهد لنفسه. فهذه تهمة موجبة لرد الحكم والشهادة؛ لأن قوة الداعي الطبعي قادحة في الظن المستفاد من الوازع الشرعي قدحا ظاهرا لا يبقى معه إلا ظن ضعيف لا يصلح للاعتماد عليه، ولا لاستناد الحكم إليه.
الثاني: تهمة ضعيفة كشهادة الأخ لأخيه، والصديق لصديقه، والرفيق لرفيقه، فلا أثر لهذه التهمة.
الثالث: تهمة مختلف في رد الشهادة والحكم بها، ولها رتبٌ:
أحدها: تهمة قوية، وهي تهمة شهادة الوالد لأولاده وأحفاده، أو لآبائه وأجداده، فالأصح أنها موجبة للرد لقوة التهمة.
الثانية: تهمة شهادة العدو على عدوه، وهي موجبة للرد لقوة التهمة، وخالف فيها بعض العلماء.
الثالثة: تهمة أحد الزوجين إذا شهد للآخر، وفيها أقوال: ثالثها رد شهادة الزوجة دون الزوج؛ لأن تهمتها أقوى من تهمة الزوج، ولأن ما ثبت له من الحق متعلق لكسوتها ونفقتها وسائر حقوقها.
الرابعة: تهمة القاضي إذا حكم بعلمه، والأصح أنها لا توجب الرد إذا كان الحاكم ظاهر التقوى والورع.
الخامسة: تهمة الحاكم في إقراره بالحكم، وهي موجبة للرد عند مالك رحمه الله غير موجبة له عند الشافعي رحمه الله؛ لأن من ملك الإنشاء ملك الإقرار، والحاكم مالك لإنشاء الحكم فملك الإقرار به. وقول مالك رحمه الله متجه إذا منعنا الحكم بالعلم.
السادسة: تهمة حكم الحاكم مانعة من نفوذ حكمه لأولاده وأحفاده وعلى أعدائه وأضداده.
قال: وإنما ردت الشهادة بالتهم من جهة أنها مضعفة للظن المستفاد من الشهادة، وموجبة لانحطاطه عن الظن الذي لا يعارضه تهمة، وبأن داعي الطبع أقوى من داعي الشرع، ويدل على ذلك رد شهادة أعدل الناس لنفسه، ورد حكم أقسط الناس لنفسه([2]).
وهذا آوان الشروع في المقصود.
أحكام جر النفع إلى النفس في الزكاة
-
أجمعوا على عدم جواز دفع الزكاة للقريب الذي تجب له النفقة بسبب الفقر؛ لأن فيه جر نفع للمزكي بصيانة ماله عن النفقة، فإن دفْعَ الزكاة إليه تغنيه عن نفقته وتسقطها عنه فيعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه فلم تجز، كما لو قضى بها دينا له، قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين والولد في الحال الذي يجبر الدافع ذلك إليهم على النفقة عليهم».([3])
-
وكذلك أجمعوا على المنع من دفعها إلى الزوجة:
قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة لأن نفقتها تجب عليه، وهي غنية بغناه»([4])؛ وذلك لأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها إليها، كما لو دفعها إليها على سبيل الإنفاق عليها.([5])
-
واختلفوا في حكم بذلها للقريب لغير مقتضى الفقر، كالغرم والمكاتب:
والقول بجوازه في هذه الحال متجه، وهو قول كثير من الفقهاء من المالكية والشافعية وقول في مذهب أحمد واختاره ابن تيمية([6])، خلافا للحنفية.([7])
قال ابن تيمية: «وأما دفعها إلى الوالدين: إذا كانوا غارمين أو مكاتبين: ففيها وجهان، والأظهر جواز ذلك. وأما إن كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم فالأقوى جواز دفعها إليهم في هذه الحال؛ لأن المقتضي موجود والمانع مفقود فوجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم».
وقال ابن تيمية في امرأة فقيرة، وعليها دين، ولها أولاد بنت صغار، ولهم مال، وهم تحت الحجر: هل يجوز أن يدفعوا زكاتهم إلى جدتهم؟ أم لا؟ وهل هي أولى من غيرها أم لا؟
فقال: «أما دفع زكاتهم إليها لقضاء دينها فيجوز في أظهر قولي العلماء وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وكذلك دفعها إلى سائر الأقارب لأجل الدين، وأما دفعها لأجل النفقة: فإن كانت مستغنية بنفقتهم أو نفقة غيرهم لم تدفع إليها. وإن كانت محتاجة إلى زكاتهم دفعت إليها في أظهر قولي العلماء وهي أحق من الأجانب».([8])
مسألة: ما حكم دفع زكاة المال إلى فقير، بشرط أن يبذل الفقير من هذه الزكاة لأحد أقارب المتصدق؟
لا يصح هذا؛ لأن الزكاة تمليك، وهو قد ملكها بقبضها، فلا تخرج عنه بشرط سابق.([9])
مسألة: ومن صور جر النفع تأخير قبض الدين هربًا من الزكاة.([10])
مسألة: ومنها الإقراض للإنقاص من الزكاة.([11])
مسألة: احتساب الإبراء من الدَّيْن من الزكاة:
صورة المسألة: لو كان لأحد دين على آخر، والمدين من أهل الزكاة، فأبرأه الدائن ثم قال: هي من الزكاة، فهل تحسب من زكاة، اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: لا يجوز احتساب الإبراء من الدين من الزكاة، وهو قول الجمهور من الأئمة الأربعة.([12])
واستدلوا:
-
بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، إذ دلت على الأخذ، والإبراء إسقاط لا أخذ فيه.
-
وهو إجماع الصدر الأول، فقد كان النبي e والخلفاء من بعده إنما كانوا يأخذون الزكاة من أعيان المال، عن ظهر أيدي الأغنياء، ثم يردونها في الفقراء، ولم يأت عن أحد منهم أنه أذِن لأحد في احتساب دَيْن من زكاة، والناس قد كانوا يداينون في سائر دهرهم.([13])
-
وقالوا: إن المبرئ لم يعقد النية عندما أدان الفقير.([14])
-
ولا يُؤمَن أن يكون الدائن إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدَّيْن، بعد أن يئس من تحصيله، فيجعله ردءاً لماله يقيه به، إذا كان منه يائسًا، وليس يقبل الله عز وجل إلا ما كان له خالصًا.([15])
-
لما كان الدَّين دون العين، إذ العين تحت يده والدَّين في ذمة المدين قد يأتي وقد لا يأتي، فإذا كان ماله عينًا وأخرج دينًا أصبح بمثابة إخراج الخبيث بدل الطيب فإن الذي أخرجه دون الذي يملكه، فهو بمنزلة إخراج الخبيث عن الطيب وهذا لا يجوز، كما قال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، ولهذا كان على المزكِّي أن يخرج من جنس ماله لا يخرج أدنى منه.([16])
-
أن هذا مال غير موجود، قد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد تعذره إلى غيره بالنية، وهذا غير جائز في معاملات الناس بينهم، حتى يقبض ذلك الدين، فكيف فيما بين العباد وبين الله.([17])
القول الثاني: يصح احتساب الإبراء من الدَّيْن من الزكاة، وهذا مذهب الظاهرية، وقول الحسن البصري، وعطاء، وقول أشهب من المالكية، وقول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة.([18])
قيل لعطاء بن أبي رباح: لي على رجل دَيْن، وهو معسر، أفأدعه له وأحتسب به من زكاة مالي؟ فقال نعم.([19])
قال أبو عبيد: “وإنما نرى الحسن وعطاء كانا يرخصان في ذلك لمذهبهما كان في الزكاة، وذلك أن عطاء كان لا يرى في الدين زكاة، وإن كان على الثقة المليء، وأن الحسن كان ذلك رأيه في الدين الضمار، وهذا الذي على المعسر هو ضمار لا يرجوه، فاستوى قولهما هاهنا، فلما رأيا أنه لا يلزم رب المال حق الله في ماله هذا الغائب، جعلاه كزكاة قد كان أخرجها فأنفذها إلى هذا المعسر، وبانت من ماله، فلم يبق عليه إلا أن ينوي بها الزكاة، وأن يبرئ صاحبه منها، فرأياه مجزئا عنه إذا جاءت النية والإبراء. وهذا مذهب لا أعلم أحدا يعمل به، ولا يذهب إليه من أهل الأثر وأهل الرأي“.([20])
واستدل أهل الظاهر:
-
بما ثبت في مسلم أن رجُلا على عهد رسول الله e أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دَيْنه، فقال رسول اللهe : “تصدَّقوا عليه”، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دَيْنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: “خُذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك”.([21])
قالوا: والصدقة المقصودة في هذا الحديث هي الزكاة.
-
ولأنه لو دفعه إليه ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه، كما لو كانت له عنده دراهم وديعة ودفعها عن الزكاة فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لا، أما إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع، ولا تسقط الزكاة بالاتفاق، ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق([22])، والدائن مأمور بالصدقة الواجبة، وبأن يتصدق على أهل الصدقات من زكاته الواجبة بما عليه منها فإذا كان إبراؤه من الدَّين يسمى صدقة، فقد أجزأه.([23])
القول الثالث: جواز احتساب الإبراء من الدَّيْن من الزكاة، ولكن بقدر نسبة زكاة ذلك الدين فقط، وهذا اختيار ابن تيمية.
-
قال أبو العباس: “لأن الزكاة مبناها على المواساة([24])، وهنا قد أخرج من جنس ما يملك، بخلاف ما إذا كان ماله عينًا وأخرج دينًا([25])، فإن الذي أخرجه دون الذي يملكه، فكان بمنزلة إخراج الخبيث عن الطيب وهذا لا يجوز، كما قال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، ولهذا كان على المزكِّي أن يخرج من جنس ماله لا يخرج أدنى منه، فإذا كان له ثمر وحنطة جيدة لم يخرج عنها ما هو دونها”.([26])
مسألة: وقد بلغ التوقي في هذا الباب أنه جاء عن جمع من السلف كراهة شراء الرقاب وعتقها من الزكاة، وهو مذهب إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير من التابعين والشافعي وأحمد([27])، لأن ذلك يجر إلى المزكي منفعة وهي ولاء المعتق وميراثه إن لم يكن له وارث، كما تقرر أحكام الإسلام.
وقال مالك: أن الرقبة التي يعتقها من زكاة ماله يكون ولاؤها وميراثها لجميع المسلمين، يعنى لبيت المال([28])، وقال أحمد وسئل عن الزكاة يعتق منها رقبة: يعان منها في الرقاب لأنه إذا أعتق جر ولاء.([29])
أحكام جر النفع إلى النفس في الوكالة
لما كان الوكيل من جملة الأمناء، (ومثله هنا الوصي والمضارب والشريك)، صار تصرفه بمقتضى الوكالة؛ مما قد يجر به نفعا لنفسه، ولابد من ضبط ذلك إلى حد ينتهي إليه، وهنا مواضع اتفاق واختلاف:
أولًا: اتفق الفقهاء على حرمة تعاقد الوكيل مع نفسه إذا صرح الموكل بمنعه؛ لأن الأصل في تصرف الوكيل أن يكون بإذن الموكل.([30])
ثانيًا: إذا صدر من الموكل إذن بذلك، فاختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
الأول: ذهب الحنفية والشافعية إلى منع الشراء والبيع من نفسه ولو أذن؛ لأنه يلزم منه أن يكون العقد مع واحد مُسلم ومستلم، ويؤدي هذا أن يكون الشخص طالبًا ومطلوبًا؛ وليس هنا من يستقضي الثمن، والشخص في البيع من نفسه لا يستوفي الثمن، فلم يدخل البيع هنا في التوكيل، ففيها شبهة جر نفع لنفسه، والوكالة قائمة على مراعاة حظ الموكل، وهنا تعارض مقصدان.([31])
الثاني: وذهب المالكية والحنابلة، وهو وجه عند الشافعية إلى الجواز؛ قياسًا على صحة توكيل الزوجة في طلاق نفسها، وإذا أذن له الموكل فقد أسقط حظ نفسه.([32])
وأجاب الأولون بالفرق بينهما: فإن البيع والشراء يدخله الزيادة والنقصان، بخلاف الطلاق، وعقد الطلاق أوسع من دائرة عقد البيع، لجواز تعليقه على الغرر والجهل، وأيضا فالعلة في المنع حصول التهمة وهي منتفية في الطلاق.([33])
ثالثًا: إذا أطلق دون إذن أو منع، فاختلف الفقهاء على قولين:
الأول: ذهب الحنفية والشافعية، وقول في مذهب أحمد، إلى المنع من عقد الوكيل لنفسه.([34])
واستدلوا:
-
بما جاء عن صِلة بن زفر قال: كان عند عبد الله بن مسعود، فأتاه رجل على فرس أبلق فقال: تأمرني أن أشتري هذا، قال: «ما شأنه؟»، قال: أوصى إلي رجل وتركه، فأقمته في السوق على ثمن، قال: «لا تشتره، ولا تستسلف من ماله».([35])
-
وأيضًا فالوكيل متهم بمحاباة نفسه موكل بمال غيره وبيعه برضاه، ويتنافى الغرضان في بيعه لنفسه ومراعاته للأحظ لموكله، فلم يجز، كما لو نهاه.
-
وهذه الصورة مخالفة للعرف من حيث أنه لا يقع في ذهن الموكل أن يشتري أو يبيع الوكيل لنفسه، فالعرف في البيع أن يكون بيع الرجل من غيره، فحملت الوكالة عليه، كما لو صرح به.
ويستدل أيضا له بما استدل للقول الأول في المسألة السابقة.
القول الثاني: الجواز إذا انتفت المحاباة، وهذا مذهب المالكية، والمشهور عند الحنابلة.
ومن ضوابط انتفاء المحاباة: أن يشتريها بعد تناهي الرغبات والطلب.([36])
وجعله بعضهم مبنيا على دخول المخاطِب تحت الخطاب أم لا؟
ورد عليه بأننا حتى لو قلنا: إنه يدخل فإنه لا يمضي هنا للتهمة، ولا يقال: قد تبين لنا انتفاء التهمة بالبيع بالقيمة فأكثر؛ لأنا نقول يحتمل أنه إنما اشتراها بذلك لما رأى أن من الناس من يرغب في شرائها بأكثر([37])، فلو قيل: بالفرق بين من يشتريها للاتجار بها وبين من يشتريها للاستخدام لكان تفريقا صحيحا.
القول الثالث: الجواز مطلقًا، وهذا قول في مذهب مالك. ([38])
-
قياسًا على جواز شراء الأب من ابنه، وهو مالك لابنه وماله. ويرد: بأن التهمة في حق الأب منتفية؛ لأنه مجبول على فعل الأصلح لابنه. ([39])
-
ويقاس على بيع الوكيل من نفسه بإذن الموكل.
-
وقالوا: لا فرق بين أن يكون الثمن حصل من الوكيل أو من غيره، إذا حصل المقصود، فلا يشترط تسمية العاقدين بخلاف عقد النكاح.
-
ولأن الله تعالى قال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، وإذا اشترى مال اليتيم بأكثر من ثمنه، فقد قربه بالتي هي أحسن.
ولو فرق بين من اعتاد على التوكيل، وبين الموكل المسترسل، الجاهل بشأن التوكيل لكان قولا دقيقا.
أحكام جر النفع في أبواب الشهادات
الشهادة عند الفقهاء: خبر محتمل، يقويها أمور ويضعفها ويمنع العمل بموجبها أمور، ومن ذلك: وجود التهمة، كما في صور جر النفع للنفس.
والتهمة عند الفقهاء في هذا الباب: أن يجر لنفسه بشهادته نفعًا أو يدفع عن نفسه بتلك الشهادة ضررًا([40])، قال الطحاوي: «السنة المتفق عليها هي ألا يحكم بشهادة جارٍّ إلى نفسه مغنما ولا دافع عنها مغرما».([41])
وتحرير محل النزاع في هذه المسألة على النحو الآتي:
أولًا: اتفق الفقهاء على عدم قبول شهادة الإنسان على فعل نفسه؛ لأنها دعوى، وليست شهادة بالاصطلاح الشرعي.([42])
ثانيًا: واتفق العلماء على قبول الشهادة لحق بيت المال العام، ولو مع وجود التهمة بجر النفع؛ واغتفر ذلك لأنه مما يشترك فيه جميع أهل الإسلام، وليس مالًا خاصًا؛ فإن المسلمين كالشركاء فيه شركة عامة، ولو قيل بخلاف ذلك لانقفل باب الشهادة لبيت المال إذ ما من مسلم إلا وله حظ في بيت المال.([43])
ثالثًا: واتفق العلماء على رد الشهادة التي تجر لصاحبها مالا([44])؛ وكذا الشهادة التي تجر نفعا لمال مشترك بينه وبين شريكه، لحصول التهمة فيها.([45])
ومستند هذا حديث: “لا تقبل شهادة خصم، ولا ظنين”.([46])
رابعًا: واتفق الفقهاء على قبول شهادة الشريك في غير ما هو شريك فيه.([47])
خامسًا: واختلف الفقهاء في مسائل وراء ذلك، سنذكر هنا بعضها:
مسألة: اختلفوا في شهادة الشريك لشريكه في غير مال الشركة -إذا لم تكن عدالته ظاهرة – على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، ورواية في مذهب مالك، أن شهادة الشريك في غير المال مقبولة، ولو لم تعلم حاله، وقالوا: لأن المقتضى لقبول الشهادة متحقق، والمانع منتف، فوجب قبولها، عملا بالمقتضى.([48])
القول الثاني: ذهب المالكية في رواية إلى عدم قبولها هنا، وأنه لابد من اشتراط العدالة. وعللوا ذلك: بأن فيها نوع شبهة، ولذا اشترطوا العدالة الظاهرة.([49])
– الترجيح: وكلا القولين لهما حظ من النظر، والأصل قبول الشهادة، وللناظر في ذلك أن يراعي ما يحف بالشهادة من أحوال وقرائن يستبين بها الحق.
مسألة: اختلفوا في قبول شهادة من يستحق مغنمًا، إذا شهد على مالٍ أنه من الغنيمة قبل القسمة على قولين:
الأول: قبول شهادته، عند الحنفية، وقالوا: تقبل أيضا شهادة الفقراء والمساكين ممن لهم نصيب في خمس الغنيمة.
والقياس عندهم رد الشهادة، ولكنها قبلت استحسانًا؛ لأنها شركة عامة، وهي لا تمنع قبول الشهادة([50])، وهذا وجه عند الحنابلة.
وقالوا: الغنيمة لا تملك إلا بعد قسمتها، فهي شهادة غير مالك.([51])
الثاني: أن شهادته لا تقبل، وهذا مذهب المالكية، والأشهر من مذهب الحنابلة.
معللين ذلك بأن الغنيمة بعد أن حازها أهل الإسلام أصبحت ملكًا لهم.([52])
ونصّ ابن تيمية أن قبولها فيه نظر، حتى على القول بأنها لا تملك إلا بعد القسمة. ([53])
مسألة: حكم الشهادة من أهل السكة على شيء من مصالحها:
ونص جمع من الفقهاء([54]) على أنه إذا شهد أهل سكةٍ على شيء من مصالحها، فإذا كانت السكة غير نافذة لم تقبل، بخلاف النافذة؛ لأن السكة إذا كانت غير نافذة فهي كالمملوكة لأهل السكة، فهذه الشهادة راجعة الى مصلحة أملاكهم، وإذا كانت نافذة فهي حق العامة والشهادة على حق العامة مقبولة.([55])
مسألة: ونص الشافعية والحنابلة على قبول شهادة أرباب الأموال الزكوية على العمال والسعاة في وضعها في غير موضعها، وعلى عدم قبولها في أخذها منهم للتهمة، وعلى عدم قبول شهادة مستحق الزكاة على العمال؛ لأنها تجر نفعًا للشاهد.([56])
– وأما إذا شهد بعض أرباب الأموال للبعض بحصول الدفع إلى العامل، فإن كان بعد التناكر والتخاصم لم تسمع شهادتهم عليه، وإن كان قبلهما سمعت، وحكم على العامل بالغرم.([57])
مسألة: في حكم شهادة الرعية لكل من له ولاية:
نص الحنفية على أنها لا تقبل إن كانوا يحصون، وحد الإحصاء مائة فأقل، وإلا قبلت؛ لأنه يخشى أن يشهدوا له خوفًا([58])، ومثله الشهادة لمقدم القرية، أو من يقسم عليهم.([59])
وذهب الظاهرية إلى قبولها مطلقًا.([60])
واعتبار الانحصار بعدد؛ مراعى عند الفقهاء لتطرق التهمة في المحصور دون الكثير جدا، ولذا نص الشافعية أن شهادة الفقراء بوقف عليهم مقبولة ما لم ينحصروا، وإلا ردت لتهمة استحقاقهم. ([61])
مسألة: وبلغ من تحوط الفقهاء لذلك أنهم نصوا على أن أهل قرية لو شهدوا على وقف مدرسة إنها لا تقبل إن كان لهم فيها حظ، فإن لم يكن لهم فيها حظ من نحو دخول أولادهم فيها قبلت([62])، ولكن يراعى إن كان المستفاد يسيرًا لا يظن بالشهود الطمع في مثله فقد نص المالكية أن لو شهد أهل غنى على وقف لقرابتهم، قُبل إن كان يسيرا.([63])
مسألة: شهادة الأقارب لبعضهم:
اختلف الفقهاء بين موسع ومضيق في هذه المسألة، على هذا النحو:
القول الأول: عدم قبول الشهادة من كل قريب، في الأصل والفرع، والإخوة، والزوجين، وكل قريب وارث، وهذا مذهب المالكية في الجملة([64]).
فأما شهادة الفرع والأصل فقد حكي الإجماع على عدم قبولها، كما قال الشافعي عن عدم قبول: «لا أعرف فيه خلافًا».([65])
والمالكية أضيق المذاهب في هذا الباب، فهم يغلّبون جانب اعتبار التهمة عادة، حتى بلغ من تحوطهم أنهم ردوا شهادة الفرع مع أصله إذا شهد في قضية واحدة، وجعلوها شهادة واحدة فقط، ووجه التهمة: إرادة التصديق في الشاهد مع فرعه أو أصله، وعدم وجودها.([66])
القول الثاني: عدم القبول في الفرع والأصل، وفي الزوجين دون غيرهم، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.([67])
القول الثالث: عدم القبول في الفرع والأصل فقط، وهذا مذهب الشافعية.([68])
القول الرابع: قبول الشهادة مطلقًا، لكل قريب إذا انتفت التهمة، وهذا مذهب الشافعي في القديم، ورواية عن أحمد، واختيار ابن المنذر وابن تيمية وابن القيم.([69])
وهذا قول قوي، قال ابن تيمية: «والواجب في العدو أو الصديق ونحوهما: أنه إن علم منهما العدالة الحقيقية قبلت شهادتهما وأما إن كانت عداوتهما ظاهرة مع إمكان أن يكون الباطن بخلافه لم تقبل، ويتوجه هذا في الأب ونحوه».([70])
وقال ابن القيم: «التهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا، ولا ريب أن تهمة الإنسان في صَدِيقِهِ وعَشِيره ومن يعنيه مودته ومحبته أعظم من تهمته في أبيه وابنه، والواقع شاهد بذلك، وكثير من الناس يُحابي صَديقَه وعَشيرَه وذا وُدِّه أعظم مما يحابي أباه وابنه. فإن قلتم: الاعتبار بالمظنة، وهي التي تنضبط، بخلاف الحكمة؛ فإنها لانتشارها وعدم انضباطها لا يمكن التعليل بها، قيل: هذا صحيح في الأوصاف التي شهد لها الشرع بالاعتبار، وعَلَّق بها الأحكام، دون مظانها، فأين علق الشارع عدم قبول الشهادة بوصف الأبوة أو البنوة أو الأخوة؟ والتابعون إنما نظروا إلى التهمة، فهي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا، ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها، بل قد توجد القرابة حيث لا تهمة، وتوجد التهمة حيث لا قرابة، والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة وكون الشاهد مرضيًا، وعلَّق عدم قبولها بالفسق، ولم يُعلِّق القبول والرد بأجنبية ولا قرابة.
قالوا: وأما قولكم: “إنه غير متهم معه في تلك العقود” فليس كذلك، بل هو متهم معه في المحاباة، ومع ذلك فلا يوجب ذلك إبطالها، ولهذا لو باعه فيمرض موته ولم يُحَابِهِ لم يبطل البيع، ولو حاباه بَطَلَ في قدر المحاباة، فعلق البطلان بالتهمة لا بمظنتها».([71])
ويجري ما مضى على شهادة الشريك لشريكه، والوصي لوصيه، والوكيل لموكله، وقد قال ابن قدامة في عدم قبول شهادة الشريك لشريكه فيما يعود عليه بالنفع: لا نعلم فيه مخالفًا.([72])
-
جر النفع في الفتيا:
لما كانت الفتيا ولاية شرعية، يتعلق بها الحكم على تصرفات المكلفين، والإخبار عن حكم الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فينبغي أن تكون على حال متجرد مستقل، لا تؤثر فيها القرابة والعداوة.
وهنا مسائل مما لها علاقة بجر النفع للمفتي، يحسن أن نأتي عليها:
– حكم أخذ الهدية للمفتي: اختلفوا في أخذ الهدية على قولين:
القول الأول: جواز ذلك([73])، إن كانت بغير سبب الفتيا، فإنه إنما يهدى إليه لعلمه، وهذا إن كان إفتاؤه لا يختلف بين من يهديه ومن لا يهديه، والفتيا تنزل منزلة خاصة، ولذا تصح مع الصداقة والعداوة، ولا يشترط في المفتي الحرية والذكورة، ولا يصح أن تلحق بالشهادة أو القضاء فيقال: كما تؤثر التهمة بجر النفع هناك فكذلك هنا، بل هي مخالفة للشهادة إذ الشهادة مختصة بشخص في إخبارها، وتفارق القضاء لعدم الإلزام فيها([74])، بل هي أقرب للرواية في أنهما إخبار عن الشرع، ولذا جوز فيها أخذ الهدية.([75])
وقال أصحاب هذا القول: الأولى له إن أخذها أن يكافئ عليها، اقتداء بالنبي e فإنه كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
القول الثاني: المنع من ذلك([76])، لميل النفوس للمهدي، لاسيما إن كان إنما ينشط إذا أهدي له، وقالوا: الإجماع منعقد على عدم جواز أخذ مال ليفتيه بما يريد([77])، ولا فرق بين الهدية والرشوة.
الراجح:
لابن القيم كلام حسن في المسألة، قال: “وأما الهدية ففيها تفصيل، فإنْ كانت بغير سبب الفتوى كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفتٍ، فلا بأسٍ بقبولها والأولى أن يكافئ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى، فإن كانت سببًا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته، وإن كان لا فرق بينه وبين غيره عنده في الفتيا، بل يفتيه بما يفتي به الناس كره له قبول الهدية لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء”.([78])
فالهدية هنا على ثلاثة أحوال:
-
الإباحة: فيجوز للمفتي قبول الهدية إذا لم تكن بسبب الفتوى، وهذا أمر اتفق عليه الفقهاء.([79])
وربما ضبط ذلك بضابط، أن يكون المفتي سينشط للفتيا سواء أهدي له أم لا.([80])
وقد أطلق بعض الفقهاء جواز قبول المفتي للهدية ([81])، وهو محمول على عدم وجود مانع من موانع القبول السابقة.
بل نص بعض الحنفية والشافعية: “إن أهدي إليهم تحبباً وتودداً؛ لعلمهم وصلاحهم فالأولى القبول”.([82])
-
الكراهة: وذلك إذا كانت الهدية بسبب الفتوى، لا بسبب آخر، ولكن لا فرق بينه وبين غيره عنده في الفتيا، بل سيفتيه بما يفتي به الناس، فيكره له قبول الهدية؛ لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.([83])
-
الحرمة: فيحرم على المفتي قبول الهدية في أحوال:
-
إذا كانت الهدية بسبب فتوى المفتي بما يريده المستفتي، سواء أراد ترخيصاً وتسهيلاً في الفتوى، أو إباحة، أو عكس ذلك، وهي هنا أقرب للرشوة.([84])
قال أبو عمرو ابن الصلاح: “وينبغي أن يقال إنه يحرم عليه قبولها -يعني الهدية – إذا كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد”.([85])
وقال ابن القيم: “فإن كانت – الهدية – سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته”.([86])
-
إذا كانت الهدية بسبب فتوى المفتي لما فيه نفع له من جاه أو مال.([87])
-
إذا كانت الهدية بسبب فتوى المفتي في موضع خصومة للمستفتي من أجل نصرته على خصمه.([88])
جاء في مواهب الجليل: “وما أهدي له رجاء العون على خصومة أو في مسألة رجاء قضائها على خلاف المعمول به فلا يحل، وهو رشوة، كأخذ فقهاء البادية الجعائل على رد المطلقة ثلاثاً ونحوها من الرخص”.([89])
-
أن يكون سبب الهدية تساهل المفتي أو الترخيص في فتوى يفتيها خاصة كانت الفتوى أو عامة، قال بعض فقهاء الشافعية: “وأما إذا أخذ المفتي الهدية ليرخص في الفتوى فإن كان بوجه باطل فهو رجل فاجر يبدل أحكام الله تعالى، ويشتري بها ثمنا قليلا، وإن كان بوجه صحيح فهو مكروه كراهة شديدة”.([90])
-
أن تكون الهدية بسبب الفتوى لصاحب السلطة والمسؤولية، وقد ذكر جماعة من فقهاء المالكية أن تحريم الهدية على المفتي في مثل هذه الحال من أجل انقطاع الرغبة للعلماء والمتعلقين بالسلطنة لدفع الظلم عنهم، فيما يهدونه لهم ويخدمونهم؛ لأن دفع الظلم واجب على كل من قدر على دفعه عن أخيه المسلم وعن الذمي.([91])
وسبب تحريم قبول الهدية في هذه الأحوال ظاهر؛ ذلك أن المفتي قد ضيع دينه وأمانته لأجل دنياه، ويختلف ما سبق تغليظًا بحسب ما تجرّ إليه الفتوى من مفاسد.
مسألة:
حكم أخذ المفتي للرزق من بيت المال:
الرزق عند الفقهاء: “المال المفروض إعانة لمن يقوم بمصالح المسلمين”.([92])
ولا يختص أن يكون من بيت المال، بل قد يكون الرزق من جهة أخرى كالأوقاف والجهات الخيرية، أو الأشخاص المتبرعين به، لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز.([93])
أخذ الرزق على الفتوى:
على حالين: الحالة الأولى: أن يكون المفتي محتاجاً للمال، وليس له كفاية، ولم يتعين عليه أن يفتي، ففي هذه الحالة اتفق الفقهاء على جوازه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “وأمّا من يأخذ بمصلحة عامة فإنّه يأخذ مع حاجته باتِّفاق المسلمين، وهل له أن يأخذ مع الغنى، كالقاضي والشّاهد والمفتي والحاسب والمقري والمحدث إذا كان غنيًا، فهل له أن يرتزق على ذلك من بيت المال مع غناه؛ قولان مشهوران للعماء”([94])، ونصوص الفقهاء من الحنفية ([95])، والمالكية ([96])، والشافعية ([97])، والحنابلة ([98])، متظافرة على جواز أخذ المفتي للرزق من بيت المال.
ويدل علة هذا الاتفاق:
أن منصب الإفتاء من المناصب التي يحتاجها عموم المسلمين، فهو في معنى الإمامة والقضاء، فالتفرغ لهذا العمل والانقطاع له من حاجات المسلمين ومصالحهم العامة، وبيت المال معد لمصالح المسلمين العامة.
الحالة الثانية: أن لا يكون المفتي محتاجاً، ولم تتعين عليه الفتوى، فأخذ الرزق للمفتي في هذه الحالة محل خلاف بين أهل العلم على قولين:
القول الأول: عدم جواز أخذ الرزق للمفتي إذا لم يكن محتاجاً، أو لم تتعين عليه الفتوى، وقد ذكر هذا بعض فقهاء الحنفية ([99])، والمالكية ([100])، وهو الأصح في مذهب الشافعية ([101])، والمشهور من مذهب الحنابلة.([102])
أدلة هذا القول:
أولاً: قياس المفتي على ولي اليتيم، فإذا كان محتاجاً أخذ وإلا لم يجز له الأخذ، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}، وإنما صح القياس لأن كلاً منهما منتصب لمعاملة الرعية ومصلحتهم.([103])
وفي ذلك يقول ابن القيم: “وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم، فمن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ”.([104])
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال: بأن هذا القياس قياس مع الفارق، فإنه وإن صح تنزيل الراعي والإمام منزلة ولي اليتيم كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه ([105])، إلا أن تنزيل المفتي بمنزلة ولي اليتيم غير وجيه، ذلك أن المفتي لا يرعى حقاً للرعية ينظر فيما هو الأحظ فيها، وإنما المفتي يجتهد في بيان ما يشكل على الناس في أمر دينهم فقط، فهما مفترقان من هذا الوجه، وأيضاً فإن ما يأخذه ولي اليتيم مال خاص للأيتام لا يجوز له التصرف فيه ولا النفقة منه إلا بما هو الأصلح لهم خاصة، وأما ما يأخذه المفتي من بيت المال فهو من جملة ما يأخذه كل عامل متفرغ لعمل المسلمين ومصالحهم.
ثانياً: أن الإفتاء إذا كان متعيّناً على المفتي، فإنه يأخذ الرزق على أدائه فرض عين عليه، والفرض يجب أداؤه بدون رزق.([106])
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن تعيّن الفتوى على المفتي ووجوبها عليه لا يسقط حقه في بيت المال؛ لأن ما يأخذه المفتي من الرزق ليس عوضاً عن الفتوى، وإنما هو إعانة على هذه الطاعة، ولأنه قد فرغ نفسه لمصلحة المسلمين.
ثالثا: الفتيا ولاية شرعية يجب أن يكون معها المفتي على حال لا يقدح في استقلاله شيئ، ولهذا ذكر الإمام أحمد في صفات المفتي أنه لا بد أن يكون له كفاية وإلا مضغه الناس.([107])
القول الثاني: جواز أخذ الرزق للمفتي مطلقاً، وإن كان غير محتاج، ولو تعيّنت عليه الفتوى، وهذا هو مقتضى إطلاق الحنفية ([108])، وقال به بعض المالكية ([109])، وهو قول عند الشافعية ([110])، ووجه في مذهب الحنابلة.([111])
أدلة هذا القول:
أولاً: قياس المفتي في جواز أخذه للرزق على عامل الزكاة، فإنه يأخذ مع الغنى، وذلك بالنظر إلى عموم الحاجة إلى المفتي وحصول المصلحة العامة به.
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن هذا قياس مع وجود الفرق، فإن عامل الزكاة مستأجر من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها فما يأخذه يأخذه بعمله، كمن يستأجره الرجل لجباية أمواله، وأما المفتي فإنه منتصب لبيان أحكام الشريعة للناس وتبليغها إليهم فهو مبلغ عن الله تعالى عز وجل بفتياه، والمبلغ عن الله تعالى لا يستحق عليها شيئاً إلا إن كان محتاجاً فله من الفيء ما يسد حاجته وهذا لون وعامل الزكاة لون.([112])
ثانياً: أن للمفتي أخذ الرزق من بيت المال؛ لأن له فيه حقا على الفتيا، فجاز له أخذ حقه، وذلك أن الإفتاء من المصالح العامة للمسلمين والمفتي يقوم بهذه المصلحة.([113])
ثالثاً: أن الحاجة داعية للقيام بمهمة الفتوى والتفرغ والانقطاع لها، وفرض رزق من بيت المال لمن انقطع لأجل ذلك واجب على الأئمة، وإلا تعطلت في الناس هذه المهمة العظيمة([114])، يقول الإمام الجويني في ذكره الأصناف التي تعطى من الأرزاق: “الصنف الثاني: الذين انتصبوا لإقامة أركان الدين، وانقطعوا بسبب اشتغالهم واستقلالهم بها عن التوسل إلى ما يقيم أودهم ويسد خلتهم، ولولا قيامهم بما لابسوه لتعطلت أركان الإيمان، فعلى الإمام أن يكفيهم مؤنهم حتى يسترسلوا فيما تصدروا له بفراغ جنان، وتجرد أذهان، وهؤلاء هم القضاة والحكام والقسام والمفتون والمتفقهون، وكل من يقوم بقاعدة من قواعد الدين يلهيه قيامه بها عما فيه سداده وقوامه”.([115])
رابعاً: قياس المفتي في وجوب نفقته من بيت المال على القاضي، وقياسه -أيضاً – قالوا: “لأن المفتين قد حبسوا أنفسهم لمصالح المسلمين لتعليمهم أحكام شريعتهم وما يأتونه ويذرونه في أقوالهم وأفعالهم، وما يتعلق به من مصالح دينهم ودنياهم، وذلك من أهم مصالحهم وأعمها، فكانت كفايتهم عليهم لقيام مصالحهم، أصله القاضي والزوجة على ما عرف”.([116])
قال ابن حمدان: “فإن كان اشتغاله بها وبما يتعلق بها يقطعه عما يعود به على حاله فله الأخذ”.([117])
الراجح من هذين القولين:
الذي يظهر من عموم الأدلة رجحان القول الثاني، وهو جواز أخذ الرزق من بيت المال على الإفتاء مطلقاً، سواء كان المفتي محتاجاً أم غير محتاج، وسواء تعيّنت عليه الفتوى أم لم تتعيّن، أما أدلة القول الآخر فقد سبقت مناقشتها بما يكفي.
لاسيما إذا أخذه من غير استشراف نفس([118])، فقد ثبت في صحيح السنة جواز الأخذ مما يعطى من غير استشراف وسؤال، فقد روى عبد الله بن السعدي رضي الله عنه أنه قدم على عمر في خلافته، فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً، فإذا أعطيت العمالة كرهتها، فقلت: بلى، فقال عمر: فما تريد إلى ذلك، قلت: إن لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل، فإني كنت أردت الذي أردت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً، فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذه، فتموله، وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك» ([119])
وحيث ترجح القول بالجواز فإنه ينبغي التنبيه إلى أمور:
أولاً: نص بعض أهل العلم على أن الورع للمفتي هو ترك الأخذ من أرزاق بيت المال، وأن الأولى له التبرع بالفتوى([120])، لاسيما في مثل هذا الموطن الذي يخشى فيه المفتي أن يكون للمال أثر في حياده واستقلاله، وأيضا: فربما دخل الورع من جهة ما يشوب الأموال العامة من الشبهات، ولذا اشتهر عند السلف ترك قبول العطاء، والامتناع عنه.
ثانياً: نص جمع من الفقهاء على أن من الواجبات السلطانية سد خلة من يقوم بتدريس الناس وتعليمهم وإفتائهم.([121])
قال الخطيب البغدادي: “وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه للفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال”.([122])
ثم روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة”.([123])
ثالثاً: نص جماعة من الفقهاء على أنه لو اتفق أهل البلد فجعلوا للمفتي رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز.([124])
-
حكم أخذ الأجرة على الفتوى:
تحرير محل النزاع:
-
اتفقوا على أنه إذا لحقته كلفة في فتياه فيجوز أن يأخذ مقابل الكلفة عوضا.
-
فإن لم تلحق كلفة، فقد اختلف في ذلك:
القول الأول: ذهب الظاهرية وبعض المالكية إلى جواز أخذ الأجرة على الفتوى إذا لم تتعين، فإن تعينت لم يجز أخذ الأجرة.([125])
واستدلوا:
أولًا: حديث: “إن أحق أخذتم عليه كتاب الله”.([126])
فيجوز في كل ما لم يتعين على المسلم فعله، فإن النبي e ذكر حكمًا عامًا بقوله: أخذتم، فلا يصح قصره على الشفاء في الرقية، ورقية الكافر ليست متعينة، فإن الحفاظ على مهجة الكافر ليست واجبة.
ثانياً: ولأنها إن تعينت فهي طاعة واجبة عليه، وأخذ الأجرة عليها من أكل المال بالباطل.
ثالثًا: أن فتوى المفتي للمستفتي منفعة تصل إلى المستفتي فجاز أخذ الأجرة عليها: كسائر المنافع.([127])
القول الثاني: عدم جواز أخذ الأجرة على الفتوى مطلقاً، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض المالكية.([128])
أدلة هذا القول:
أولاً: استدلوا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: «وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام».([129])
ويجاب عنه: بأن هذا إنما هو في تبليغ العلم الواجب.
ويرد عليه: بأن المستفتي إذا لم يجد إلا ذلك المفتي، أو لا يعرف الوصول إلا إليه، فقد أصبح من تبليغ العلم الواجب.
ثانياً: واستدلوا بحديث: «من سئل عن علم فكتمه، ألجم بلجام من نار يوم القيامة».([130])
ومع ضعف هذا الحديث، فإن أصول الشريعة دالة على ذم من كتم العلم الواجب، ويبقى تحرير الأمر متعلقًا في ضبط حد العلم الواجب.
ثالثاً: ومما يستدل به هنا حكاية بعض أهل العلم الإجماع على ذلك.([131])
رابعًا: أن الحكم في أخذ العوض في الفتيا كالحكم في أخذ العوض على سائر القربات التي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب كتعليم القرآن والحديث والفقه: ولا يفعلها إلا مسلم؛ ولا يصح قياسها على أخذ العوض على مطلق المنافع التي يفعلها المسلم والكافر، فإن الفعل إذا فعل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنه يبقى مستحقا بالعوض معمولاً لأجله، فكما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله والاستئجار يخرجها عن ذلك.([132])
رابعاً: أن الفتيا تبليغ عن الله ورسوله، وقد قال الله تعالى في كتابه مخاطباً نبيه بأن البلاغ أجره على الله تعالى، وطلب به حظ من نصيب الدنيا، في مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].
قال الشنقيطي: «الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً، من غير أخذ عوض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام»([133]).
قال ابن القيم: «الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال له: لا أعلمك الإسلام أو الوضوء أو الصلاة إلا بأجرة، أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعاً، ويلزمه رد العوض، ولا يملكه»([134]).
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال: أن الفتيا غير متعينة على مفت بعينه، وإنما يتوجه الذم إذا تعينت، ولهذا قلب بعض العلماء هذا الاستدلال، فقال: «الآية تدل على أنه يحلّ أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام، والمعنى لا أسألكم جعلاً تعففاً. أي: وإن حلّ لي أخذه».
وذكر بعضهم: «أن الآية على نفي سؤاله منهم أجراً، كي لا يثقل عليهم الامتثال، وأما استفادة الحل والتحريم منها، ففيه خفاء».([135])
القول الثالث: جواز أخذ الأجرة على الفتيا كتابة، فإن الكتابة غير واجبة عليه، وإنّما يجب عليه الجواب باللسان، فإذا كانت الكتابة غير واجبة عليه جاز له أخذ الأجرة عليها([136])، وأيضا فيقاس على الناسخ، فإنّه يجوز له أخذ الأجرة على خطه فكذلك المفتي؛ لأنّ الخط قدر زائد على الجواب، فيجوز أخذ الأجرة عليه.([137])
ولا يدخل في خلافهم ما يحتاج إليه المفتي من ورق وحبر ونحوهما فإنه لا يلزمه على قول الجميع.([138])
القول الرابع: المنع من أخذ الأجر إلا عند الحاجة، بأن لا يكون له كفاية لا من ماله ولا من بيت المال وهذا أحد الأقوال في مذهب أحمد، واختيار ابن تيمية([139]).
قال ابن تيمية: «وقيل: يجوز أخذ الأجرة عليها – فعل القربات – للفقير، دون الغني، وهو القول الثالث في مذهب أحمد، … وهذا القول أقوى من غيره على هذا، فإذا فعلها الفقير لله، وإنما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك، وليستعين بذلك على طاعة الله، فالله يأجره على نيته، فيكون قد أكل طيباً، وعمل صالحاً»([140]).
أدلة هذا القول:
أولاً: أن المفتي إن لم يأخذ أجرة على فتواه أفضى ذلك إلى ضرر يلحقه في نفسه وفي من يعول، والضرر منفي شرعاً، وإن لم يفت حصل-أيضاً- للمستفتى ضرر، فتعين الجواز.
ويجاب عن ذلك: بعدم التسليم فإن الضرر إنما يلحق إذا تفرغ للفتيا بما يضره في كسبه، وهذه حال أخص من المذكور في هذا القول، فلو قالوا: يجوز إذا كان محتاجًا ثم شغلته الفتيا عن التكسب، لكان أقرب.
ثانياً: قياس المفتي على ولي اليتيم، فكما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغني مع الغنى، فكذلك المفتي.
ويجاب: عن ذلك بأن الولاية على المال ليست من القربات المحضة، بخلاف تبليغ الرسالات فإنها من أعظم القربات.
ثالثاً: أن المفتي المحتاج إذا اكتسب بالفتوى أمكنه أن ينوي عملها لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة؛ فإن الكسب على العيال واجب أيضاً فيؤدي الواجبات بهذا؛ بخلاف الغني الذي لا يحتاج إلى الكسب، لاسيما إذا لم يوجد غيره فيصير واجبا على العين.([141])
ويجاب: بأن علة المنع ليست في هيئة النية وتحويلها فقط، فإن الصلاة الواجبة لا يجوز أخذ الأجرة عليها، ولو حسنت نيته.
-
والظاهر أن الأصل المنع من أخذ الأجرة على الفتيا، ولكن يجوز أخذها بشروط:
-
أن لا يوجد من يقوم مقامه، ولا يستطيع المستفتي الوصول إلى غيره، لاسيما إذا كان هناك من يلي هذه الولاية ممن رتب بوظيفة مالية من بيت المال.
-
أن يكون محتاجا لذلك.
-
أن يكون الاشتغال بالفتيا مما يشغله عن التكسب أو يضر به، لاسيما إذا كانت فتيا مكتوبة محررة، مما هي من جنس الأبحاث العلمية والمصنفات الشرعية.([142])
والعلم عند رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) انظر بعض ما ذكره الفقهاء في ضبط ذلك في فتح القدير (6/473)، مغني المحتاج (4/433)، الشرح الكبير (29/423).
([2]) القواعد (2/36).
([3]) الإشراف (3/102)، وانظر: حاشية ابن عابدين (2/257)، الذخيرة (3/141)، المجموع (6/191)، المغني (2/482)، الإنصاف (3/254).
[4])) الإشراف (3/104).
([5]) المغني (2/484).
[6])) التبصرة (3/966)، مواهب الجليل (2/354)، حاشية الدسوقي (1/499)، روضة الطالبين (2/310)، نهاية المحتاج (6/154)، المغني (4/108)، الإنصاف (3/254)، مجموع الفتاوى (25/90، 91).
[7])) أحكام الجصاص (4/338)، بدائع الصنائع (2/893)، تبيين الحقائق (1/301) رد المحتار (2/258). هل يرون وجوب إنفاقه في غرمه، أو لا تهمه
([8]) مجموع الفتاوى (25/90، 91).
([9]) حاشية ابن عابدين (2/257)، بلغة السالك (1/425)، المجموع (6/20)، كشاف القناع (2/288).
([10]) انظر: حاشية الخرشي (2/192).
([11]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/12)
ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون للتجارة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يصير للتجارة؛ لأن القرض ينقلب معاوضة المال بالمال في العاقبة، وإليه أشار في الجامع أن من كان له مائتا درهم لا مال له غيرها فاستقرض قبل حولان الحول بيوم من رجل خمسة أقفزة لغير التجارة ولم تستهلك الأقفزة حتى حال الحول لا زكاة عليه في المائتين ويصرف الدين إلى مال الزكاة دون الجنس الذي ليس بمال الزكاة فقوله: استقرض لغير التجارة دليل أنه لو استقرض للتجارة يصير للتجارة وقال بعضهم: لا يصير للتجارة وإن نوى؛ لأن القرض إعارة وهو تبرع لا تجارة فلم توجد نية التجارة مقارنة للتجارة فلا تعتبر.
ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة ثم نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك لا تصير للتجارة ما لم يبعها فيكون بدلها للتجارة، فرق بين هذا وبين ما إذا كان له مال التجارة فنوى أن يكون للبذلة حيث يخرج من أن يكون للتجارة وإن لم يستعمله؛ لأن النية لا تعتبر ما لم تتصل بالفعل وهو ليس بفاعل فعل التجارة فقد عزبت النية عن فعل التجارة فلا تعتبر للحال بخلاف ما إذا نوى الابتذال؛ لأنه نوى ترك التجارة وهو تارك لها في الحال فاقترنت النية بعمل هو ترك التجارة فاعتبرت.
ونظير الفصلين السفر مع الإقامة وهو أن المقيم إذا نوى السفر لا يصير مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر، والمسافر إذا نوى الإقامة في مكان صالح للإقامة يصير مقيما للحال.
ونظيرهما من غير هذا الجنس الكافر إذا نوى أن يسلم بعد شهر لا يصير مسلما للحال، والمسلم إذا قصد أن يكفر بعد سنين والعياذ بالله فهو كافر للحال.
-
الدين الذي يزكى لعام واحد عند المالكية، وتحب فيه الزكاة بشروط انظر: حاشية الدسوقي (1/466):
-
الديم المرجو عند الشافعية انظر: المجموع (6/20).
-
إيجاب الزكاة في الدين مطلقا عند الحنابلة انظر: المغني (2/637).