How Can We Help?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث موجز بحثت فيه: (انتفاع المزكي من زكاته)، وتحدثت فيه عن حكم جر المكلف النفع إلى نفسه بالزكاة، وما هي الضوابط الحاكمة لذلك، فإنه لما كانت الشريعة المطهرة قد جاءت بكمال تزكية النفوس وتطهيرها، كان من مقتضى ذلك أن تحسم مادة جر النفع الدنيوي بالعبادة، لصيانة كمال خلوص التعبد وتمامه.
ولذلك منع النبي e من الرجوع في الصدقة والهبة([1])، وحرم الاستئجار على الصلاة الواجبة([2])، ومنع كثير من السلف الاستئجار على الأذان والإمامة([3])، ولمراعاة ما له شأن في التعبد تجد أن الفقهاء حين اختلفوا في أخذ الأجرة في تجهيز الميت، لمح بعضهم هذا الأصل فذهب إلى جواز الاستئجار على التكفين والحمل والدفن، وأما الغسل فلا([4])، لأن الغسل عبادة واجبة بخلاف الحمل والدفن([5])، ومما يقرر ذلك ما جاء عن جمع من السلف من كراهة شراء الرقاب وعتقها من الزكاة، لأن ذلك يجرّ إلى المزكي منفعةً، وهي ولاء المعتق وميراثه إن لم يكن له وارث([6]).
وقد قسمت البحث إلى سبعة مباحث:
المبحث الأول: حكم بذل الزكاة للأصول والفروع.
المبحث الثاني: حكم بذل الزكاة للزوجة.
المبحث الثالث: بذل الزكاة لبقية الأقارب.
المبحث الرابع: بذل الزوجة الزكاةَ لزوجها.
المبحث الخامس: احتساب الزكاة من الدين.
المبحث السادس: اشتراط المزكي إعطاء قريبه من الزكاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول: حكم بذل الزكاة للأصول والفروع:
لا يخلو إعطاء الزكاة للأصول والفروع من أحوال:
الحال الأولى: بذل الزكاة الذي يسقط النفقة الواجبة للأصول أو الفروع:
أجمع الفقهاء على عدم جواز دفع الزكاة للأصول والفروع الذين تجب لهم النفقة بسبب الفقر؛ لأن فيه جرَّ نفعٍ للمزكي بصيانة ماله عن النفقة، فإنّ دفْعَ الزكاة إليه يغنيه عن نفقته وتسقطها عنه فيعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه فلم تُجْزِ، كما لو قضى بها دينا له، قال ابن المنذر: “أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين والولد في الحال الذي يُجبَر الدافع ذلك إليهم على النفقة عليهم”([7]).
ويشمل المنع الأجداد والجدات وإن عَلَوا والأولاد وإن نزلوا([8]).
ويلحق بالزكاة ” كلَّ صدقة واجبة، فلا يجوز دفعها لهم كأحد الزوجين، كالكفارات وصدقة الفطر والنذور”([9]).
الحال الثانية: دفع الزكاة في سداد دين الأصول والفروع:
اختلف في هذه المسألة على قولين اثنين:
القول الأول: الجواز، وهو مذهب المالكية والشافعية وقول في مذهب أحمد واختاره ابن تيمية([10]).
لأن “المنفعة لا تعود على المعطي”([11]).
القول الثاني: المنع، وهو مذهب الحنفية والحنابلة([12]).
لأن بين الفروع والأصول اتصالا في المنافع([13])، والواجب قطع منفعة الزكاة عن المالك من كل وجه([14]).
ولأن الواجب عليه الإخراج عن ملكه رقبة ومنفعة ولا يتحقق ذلك إذا بذلها في الأصول والفروع، فإنه وإن أخرج الرقبة عن ملكه فلم يتحقق إخراج المنفعة([15]).
المبحث الثاني: حكم بذل الزكاة للزوجة:
لا يخلو من أحوال:
الحال الأولى: إسقاط النفقة الواجبة للزوجة بالزكاة:
أجمع الفقهاء على عدم إجزاء دفع المزكي زكاته إلى زوجته. قال ابن المنذر: “أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة؛ لأن نفقتها تجب عليه، وهي غنية بغناه”([16]) “وذلك لأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن أخذ الزكاة، فلم يَجُزْ دفعها إليها، كما لو دفعها إليها على سبيل الإنفاق عليها”([17]).
الحال الثانية: دفع الزكاة في سداد دين الزوجة:
دين الزوجة إما أن يكون بسبب القصور في النفقة الواجبة لها، فالأصل منع بذل الزكاة فيه؛ لأنه داخل في الحال الأولى، والله أعلم.
وإما ألا يكون بسبب التقصير في النفقة الواجبة، فيجري فيه الخلاف الذي سبق في حكم بذل الزكاة لغرم الأصول والفروع([18]).
المبحث الثالث: بذل الزكاة لبقية الأقارب:
لا تخلو المسألة من أحوالٍ ثلاثة:
الحال الأولى: إذا كانت النفقة واجبة على المزكي، فلا يجوز إسقاط النفقة الواجبة على بقية الأقارب بالزكاة عند عامة الفقهاء([19]).
الحال الثانية: إذا لم تكن النفقة واجبة على المزكي، فيجوز إعطاء القريب من الزكاة وعليه عامة الفقهاء([20])، وذلك “لانقطاع منافع الأملاك بينهم ولهذا تُقبل شهادة البعض على البعض”([21])، بل إن بذلها له أفضل إذا تساوت حاجة القريب والبعيد، قال ابن تيمية: “أما دفع الزكاة إلى أقاربه: فإن كان القريب الذي يجوز دفعها إليه حاجته مثل حاجة الأجنبي إليها فالقريب أولى، وإن كان البعيد أحوج لم يحاب بها القريب، قال أحمد عن سفيان بن عيينة كانوا يقولون: لا يحابي بها قريبا ولا يدفع بها مذمة ولا يقي بها ماله”([22]).
الحال الثالثة: سداد دين الأقارب من الزكاة:
يُقال فيه ما قيل في سداد دين الأصول والفروع والزوجة، فإن لم تكن النفقة لازمةً على المزكّي لقريبه، ولم يكن الدين ناشئًا عن النفقة الواجبة عليه فلا إشكال في جواز دفع الزكاة لقريبه لسداد الدين.
أما إن كان الدين ناشئًا عن النفقة الواجبة على المزكّي فجواز ذلك مبنيٌّ على مسألة: هل يُطالَب القريب بالنفقة الماضية الواجبة عليه لقريبه، أو أنه لا يُطالب إلا بالنفقة المستقبلة؟
فمن منع المطالبة بالنفقة الماضية فينبغي له أن يصحح دفع الزكاة للقريب، ومن صححها فاللائق به منع دفع الزكاة إلى القريب؛ إذْ إن المزكّي حينئذٍ ينتفع بإسقاط ما وجب عليه.
المبحث الرابع: بذل الزوجة الزكاةَ لزوجها:
لا يخلو هذا من أحوال:
أولًا: أن تبذل الزوجة الزكاة لزوجها في غير دين:
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: التحريم، وهو مذهب الحنفية([23]) والحنابلة([24]).
واستدلوا:
-
“لأنها أي الزكاة تعود إليها بإنفاقه عليها”([25]).
-
ولأن “المرأة تنبسط في مال زوجها بحكم العادة، ويُعدُّ مالُ كل واحد منهما مالًا للآخر”([26]).
-
ولأن “نفقة المرأة تجب على زوجها فتصير غنية بغنى الزوج”([27]).
القول الثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعية([28]) واختاره صاحبا أبي حنفية([29]) وهو قولٌ عند الحنابلة اختاره القاضي أبو يعلى والموفّق ابن قدامة([30])، بل قال باستحبابه بعض الفقهاء([31]).
واستدلوا:
بما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، خرج رسول الله ﷺ في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف، فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال: «أيها الناس، تصدقوا»، فمر على النساء، فقال: «يا معشر النساء، تصدقن، فإني رأيتُكن أكثر أهل النار» فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء» ثم انصرف، فلما صار إلى منزله، جاءت زينب، امرأة ابن مسعود، تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله، هذه زينب، فقال: «أي الزيانب؟» فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: «نعم، ائذنوا لها» فأذن لها، قالت: يا نبي الله، إنك أمرتَ اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِيّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود: أنه وولدَه أحقُّ من تصدقت به عليهم، فقال النبي ﷺ: «صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم»([32]).
وأجيب عنه بأنه “محمول على النافلة”([33])، قال الإمام أحمد “مَنْ ذَكَرَ الزكاة فهو عندي غير محفوظ، إنما ذاك صدقةٍ من غير الزكاة”([34]).
القول الثالث: الكراهة، وهو المشهور من مذهب المالكية([35]).
والظاهر جوازه؛ ولو قدر أن الزوج سينفق منها عليها، فإنه مستحِق للزكاة، ولا يجب عليها أن تُنفق عليه، والمنفعة وإن وُجدت هنا فليست منهيًّا عنها في الشرع، إذ الشريعة لم تنهَ عن كل منفعة، وإنما نهتْ عن المنفعة التي يُسقِط بها المزكّي ما وجب عليه، وليس هذا المعنى موجودًا في هذه المسألة.
ثم إن حكم الزكاة يزول بامتلاك الزوج له، فلا يكون منفِقًا لزوجته من زكاتها، كما تغيّر المال الذي أُنفق لبريرة فكان لها صدقة ولآل بيت النبي ﷺ هديّة، ففي الصحيحين أن بريرة أهدتْ لعائشة لحمًا، فقال رسول الله ﷺ: «لو صنعتم لنا من هذا اللحم»، قالت عائشة: تُصِدِّق به على بريرة، فقال: «هو لها صدقة ولنا هدية»([36]).
ثانيًا: إنفاق الزوجة الزكاة في سداد دين زوجها:
من جوّز إعطاء الزوجة الزكاةَ لزوجها من أجل النفقة جوّزه هنا بلا إشكال، وقد أجاز إنفاق الزوجة الزكاة في سداد دين زوجها المالكية([37]) والشافعية([38]) وبعض الحنابلة([39]).
المبحث الخامس: احتساب الزكاة من الدين:
صورة المسألة: لو كان لأحد دين على آخر، والمدين من أهل الزكاة، فأبرأه الدائن ثم قال: هي من الزكاة، فهل تحسب من زكاة، اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: لا يجوز احتساب الإبراء من الدين من الزكاة، وهو قول جماهير الأمة من الأئمة الأربعة([40]) وغيرهم.
واستدلوا:
-
بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، إذ دلت على الأخذ، والإبراء إسقاط لا أخذ فيه.
-
هو إجماع الصدر الأول، فقد كان النبي e والخلفاء من بعده إنما كانوا يأخذون الزكاة من أعيان المال، عن ظهر أيدي الأغنياء، ثم يردونها في الفقراء، ولم يأت عن أحد منهم أنه أذِن لأحد في احتساب دَيْن من زكاة، والناس قد كانوا يداينون في سائر دهرهم([41]).
-
المبرئ لم يعقد النية عندما أدان الفقير([42]).
-
لا يُؤمَن أن يكون الدائن إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدَّيْن، بعد أن يئِسَ من تحصيله، فيجعله ردءاً لماله يقيه به، إذا كان منه يائسًا، وليس يقبل الله عز وجل إلا ما كان له خالصًا([43]).
-
احتساب الزكاة من الدين من قبيل إخراج الخبيث عن الطيب، إذْ هي اجتزاءٌ بالدين عن العين، والدَّين دون العين، فالعين تحت يده والدَّين في ذمة المدين قد يأتي وقد لا يأتي، فإذا كان ماله عينًا وأخرج دينًا أصبح بمثابة إخراج الخبيث بدلًا عن الطيب، فإن الذي أخرجه دون الذي يملكه، وهذا لا يجوز، كما قال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، ولهذا كان على المزكِّي أن يُخرج من جنس ماله، ولا يخرج أدنى منه([44]).
-
أن هذا مال غير موجود، فقد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد تعذره إلى غيره بالنية، وهذا غير جائز في معاملات الناس بينهم، حتى يقبض ذلك الدين، فما أنه لا تصح الحوالة على معدوم أو معسر، فكذلك الحال هنا، ودني الله أحق بالقضاء والوفاء([45]).
القول الثاني: يصح احتساب الإبراء من الدَّيْن من الزكاة، وهذا مذهب الظاهرية، وقول الحسن البصري، وقول أشهب من المالكية، وقول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة([46])، وهو قول عطاء فقد قيل له: لي على رجل دَيْن، وهو معسر، أفأدعه له وأحتسب به من زكاة مالي؟ فقال نعم([47])، قال أبو عبيد: “وإنما نرى الحسن وعطاء كانا يرخصان في ذلك لمذهبهما كان في الزكاة، وذلك أن عطاء كان لا يرى في الدين زكاة، وإن كان على الثقة المليء، وأن الحسن كان ذلك رأيه في الدين الضمار، وهذا الذي على المعسر هو ضمار لا يرجوه، فاستوى قولهما هاهنا، فلما رأيا أنه لا يلزم رب المال حق الله في ماله هذا الغائب، جعلاه كزكاة قد كان أخرجها فأنفذها إلى هذا المعسر، وبانت من ماله، فلم يبق عليه إلا أن ينوي بها الزكاة، وأن يبرئ صاحبه منها، فرأياه مجزئا عنه إذا جاءت النية والإبراء. وهذا مذهب لا أعلم أحدا يعمل به، ولا يذهب إليه من أهل الأثر وأهل الرأي“([48]).
واستدلوا:
-
بأنه لو دفعه إليه ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه، كما لو كانت له عنده دراهم وديعة ودفعها عن الزكاة فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لا.