How Can We Help?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله: أما بعد:
فإن الشريعة المطهرة حين أوجبت الزكاة، أوجبتها على نحو يُراعى فيه الباذل المتصدق، وجعلت شروط وجوبها محققة تدفع العنت عنه والمشقة، ولهذا كان التملك وتمامه مؤثرا في وجوبها وسقوطها، كما سيتبين بإذن الله في هذا البحث المختصر.
المبحث الأول: مفهوم تمام الملك.
تعريف الملك لغة: ملكه يملكه ملكا مثلثة، احتواه قادرا على الاستبداد به.([1])
تعريف الملك في اصطلاح الفقهاء:
أشكل ضبط الملك على كثير من الفقهاء، وذلك لأنه وصف عام يترتب على أسباب مختلفة كالبيع والهبة والصدقة والإرث وغيرها، فإنه لو حُدّ: بالتصرف لأشكل، لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف، فهو ليس التصرف فحسب، فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فقد يوجد التصرف بدون الملك كالوصي والوكيل والحاكم فكل واحد من هؤلاء يتصرف ولا ملك له، وقد يوجد الملك بدون التصرف، كالصبيان والمجانين وغيرهم، فهم يملكون ولا تنفذ تصرفاتهم ولا تصح في الجملة، وقد يجتمع الملك والتصرف في حق البالغين الراشدين، نافذي الكلمة كاملي الأوصاف.([2])
-
ويمكن تعريف الملك في الاصطلاح: بأنه اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقا لتصرفه فيه، وحاجزًا عن تصرف غيره فيه.([3])
تعريف التمام:
لغة: تَمَّ الشيء يتم َتَمامًا، وتتمة كل شيء تمام غايته.([4])
تمام الملك عند الفقهاء:
-
عند الحنفية:
يقصد به عندهم ما أمكن التصرف فيه تصرفا تتحقق به القدرة على تنمية المال والانتفاع منه، فالنماء عندهم سبب الزكاة([5])، ويتحقق ذلك بملك الرقبة واليد([6])، لا بمجرد حصول أصل الملك.([7]).
-
المالكية:
ويعنون به ما يمكن التصرف فيه تصرفا تاما([8]) يقدر معه على تنميته([9])، وأن يكون مستقرا لا يملك أحد استرجاعه أو أخذه.([10])
ولهم قول آخر: أن عدم القدرة على التنمية لا تمنع التزكية.([11])
-
الشافعية:
يكتفون فيه بوجود الملك.([12])
-
الحنابلة:
الملك التام عندهم: هو ما كان بيده مما لم يتعلق فيه حق غيره، ويتصرف فيه باختياره، وتكون فوائده حاصلة له.([13])
ويتبيّن بهذا أن أوسع المذاهب في ذلك هو مذهب الشافعية، ثم الحنابلة، ثم المالكية والحنفية.
المبحث الثاني: مشروعية اشتراط([14]) تمام الملك في الزكاة
قد دلّت أدلة متكاثرة على اعتبار هذا الشرط لوجوب الزكاة، من الكتاب والسنة والإجماع:
-
قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.
فقوله: {من أموالهم صدقة} يقتضي أن يكون المال مالا لهم([15]).
-
قال الله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، فإضافة الأموال إلى أربابها تقتضي الملكية.
-
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي e بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن، فقال: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم»، فأضاف الأموال إليهم.
-
وخرّج الترمذي من حديث أبي أمامة قال: سمعت رسول الله e يخطب في حجة الوداع يقول: «أيها الناس، اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم» وقال: حسن صحيح.([16])
-
روي عن علي رضي الله عنه: «لا زكاة في مال الضمار».([17])
-
ولأن في الزكاة تمليكا والتمليك في غير الملك لا يتصور.([18])
-
اتفاق العلماء على اشتراطه.([19])
المقاصد الشرعية لاشتراط تمام الملك:
اشترطت الشريعة المطهرة شرط تمام الملك في الزكاة لمقاصد عظيمة، وحكم جليلة، نقتصر على اثنين منهما:
-
مقصد شكر نعمة الغنى:
فمن أعظم مقاصد الشارع في تشريع الزكاة شكر نعمة الغنى، ولهذا ارتبط تشريع الزكاة بالقدرة على الانتفاع من المال، بأن يكون محتملًا للمواساة، فالملك الناقص ليس كالتام من جهة كمال النعمة، والزكاة شرعت في مقابل النعمة الكاملة([20])، “ولأن المال إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيا ولا زكاة على غير الغني”([21]). قال البزدوي رحمه الله: “فهذا الإغناء وجب عبادة شكرا لنعمة الغنى، فشرط الكمال في سببه ليستحق شكره، فيكون الواجب شطرا من الكامل”.([22])
-
مقصد التيسير ورفع الحرج:
وذلك أن الشارع فرض الزكاة على وجه اليسر، فلم يفرض الزكاة إلا في أمر تحتمل فيه المواساة، وإذا لم يتم الملك لم يكن محتملا للمواساة فلا يوجب الشارع فيه الزكاة، قال ابن القيم: “ولم يفرضها في كل مال، بل فَرضَها في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الربح والدَّرُّ والنسل، ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه”([23])، و”مبنى الزكاة في الشرع على اليسر والسهولة ولهذا وجب القليل من الكثير ووجبت في النماء لا في أصل المال تيسيرا على أرباب الأموال ولهذا شرط لتكرار الواجب تكرار الحول”([24])، وكما يقول ابن عاشور: “الشريعة حريصةٌ على دفع الأذى عن المحسنِ أن ينْجر له من إحسانه، لكيلا يكره الناسُ فعلَ المعروف”.([25])
المبحث الثالث: ضوابط تمام الملك
سبق معنا أن تعريف الملك مما قد اضطربت فيه كلمات الفقهاء، ولذا وجب أن يضبط معنى الملك وتمامه بضوابط تبين المقصد منه، وتدل عليه، وهنا ذكر لضوابط يمكن بها أن يكشف للناظر المراد منه.
1. استقرار الملك:
مما ليس يخفى أن الملك ليس على رتبة واحدة، فالملك تعرض له من الأسباب ما تضعفه، كعدم تعين المالك، وكنقصان التصرف كما في مال المحجور عليه، ومن تلك الأسباب المضعفة عدم استقرار الملك.([26])
ونعني باستقراره: أن يوجد مع ملك الرقبة ملك اليد من غير أن يكون قابلا للسقوط.
ومن أمثلة الملك الذي لم يستقر:
-
الصداق فإنه وإن وجب بالعقد لكنه لا يستقر إلا بالوطء؛ فوجوب المال حكم، والاستقرار حكم آخر، فإنه قد يتطرق إلى جميعه السقوط قبل الوطء بالردة، وإلى نصفه بالطلاق.([27])
-
وكملك المبيع في زمان الخيار لمن يكون؟ فإن قلنا: المالك هو البائع فالزكاة عليه، وإن قلنا: أن المالك المشتري فلا زكاة على البائع لانقطاع حوله بزوال ملكه، والمشتري يبتدئ الحول من يوم الشراء، فإذا تم الحول من يومئذ وجبت الزكاة عليه، وإن قلنا: إنه موقوف فإن تم العقد تبين الملك للمشتري وإن فسخ تبينّا أنه كان للبائع.([28])
-
وكملك الغنيمة قبل القسمة فإنه ليس مستقرا.([29])
-
ومثله ربح المضارب قبل القسمة فإنه ليس مستقرا، لأنه يمكن أن يسقط ولا يوجد.([30])
-
ومن ذلك الإجارة الطويلة التي يقبض فيها المؤجر الأجرة ابتداء، فهل يستقر الملك بالعقد أم بمضي المدة؟ وهل ملكها بالعقد ملكا مستقرا مبرما، أو ملكها ملكا موقوفا مراعى؟([31]) وهي مسألة مبنية على ملك عوض المنافع هل هو من يوم قبض الأجرة المقدمة، أو حين استيفاء المنفعة؟ فمقتضى عقد الإجارة استحقاق كل واحد من المتعاقدين لما عقد عليه ولكن عدم تسليم المنفعة يزلزل قرار الملك([32])، ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لو أكرى دارا أربع سنين بمائة؛ فإنه إذا حال الحول فإنما يزكي خمسة وعشرين، لأن ملك المستأجر على المنفعة غير مستقر، فلو فاتت بهدم رجع بما في مقابلتها من الأجرة، ولو استقر ملكه عليها لم يرجع عند فواتها بما قابلها كالمشتري.([33])
2. تعيين المالك:
فلا تجب الزكاة فيما ليس له مالك معين، ولهذا لم تجب الزكاة في الأموال الموقوفة على غير معينين([34])، وإن كان جنسهم من غير أهل الزكاة([35])، ومثله مال الغنيمة فلا تجب الزكاة فيه.([36])
3. القدرة على الانتفاع بالمال:
وهذا الشرط من أهم ما ينبغي أن يعتنى به لضبط صفة تمام الملك، فإن درجات التصرف والانتفاع بالمال ليست على رتبة واحدة، واختلف نظر الفقهاء في ذلك بناء على اختلاف درجات التصرف، لاسيما أن التصرف قد يوجد مع عدم النماء: كالناضّ من مال الأسير، وقد يوجد النماء بغير التصرف: كما في بهيمة الأنعام من مال الصبي.
فذهب الحنفية والمالكية وهو قول عند الشافعية: إلى أن الاستنماء شرط في تمام الملك، فلا زكاة إذا فقد([37])، ولهذا لا تجب الزكاة فيما لا يستطيع المالك التصرف فيه بالاستنماء لسبب يتعلق بالمال ليس للمالك قدرة على دفعه، كالمال المغصوب، والعبد الآبق، والمال الساقط في البحر، والمال الذي أخذه السلطان مصادرة، والدين المجحود، والمال المدفون في الصحراء([38])،
بخلاف ما إذا كان العجز من جهته فالأصل عدم سقوط الزكاة([39])، ولهذا نصّ المالكية أنه لو ورث نعما أو نخلا فوضعت في يد عدل فإنها تجب زكاتها لأن التنمية موجودة([40])، ويدل على اعتبار التمكن من التنمية إسقاط الزكاة عن العقار والمقتناة.([41])
القول الثاني: وهو قول الشافعي في الجديد: أنه يكفي أصل الملك، ولهذا رأوا الزكاة في المغصوب إذا رجع ولو بلا نماء، لأن الزكاة لم تسقط قبل رجوعه لعدم النماء، فإن الذكور من الماشية لا نماء لها ومع هذا تجب فيها الزكاة([42])، وفي مال الأسير والمال المرهون طريقان: هو كالمال المغصوب، وقيل: فيه الزكاة مطلقا([43])، والمال المحجور عليه كالمغصوب.([44])
القول الثالث: وهو قول الحنابلة أنه لابد من القدرة على التصرف في المال، ولذا لا تجب الزكاة في الديون حتى يقبضها، لأنه لا يمكنه الانتفاع منها([45])، وسيأتي مزيد حديث عن ذلك في زكاة المال الضمار بإذن الله.
-
ومما هو داخل في القدرة على الانتفاع القدرة على الوصول إلى المملوك، ولذا تجد فقهاء الحنفية يفرقون بين من دفع وديعة ثم نسي، بين ما إذا كان المدفوع إليه من معارفه وبين ما لو لم يكن من معارفه، فإن كان من معارفه فعليه الزكاة لما مضى إذا تذكر؛ لأن نسيان المعروف نادر فكان طريق الوصول قائما؛ وإن كان ممن لا يعرفه فلا زكاة عليه فيما مضى لتعذر الوصول إليه([46])، ومثله التفريق بين كونه مدفونا في بيته وبين كونه في صحراء، فإن كان المال مدفوناً في بيته وداره ونسيه، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن الوصول إليه غير متعذر؛ لأنه يمكن حفر جميع البيت، بخلاف ما إذا دفنه في الصحراء؛ لأن حفر جميع الصحراء غير ممكن، فهو مال لا ينعقد نصاباً عندهم إذ فات معنى التجارة لتعذر الوصول إليه.([47])
ومن خلال الحديث الماضي يتبين أن تمام الملكية له رتب ودرجات:
-
ملك الرقبة فقط دون اليد، كالمال الضائع.
-
ملك الرقبة مع وجود التصرف فقط كمال الأسير.
-
ملك الرقبة مع التصرف والانتفاع وهو الملك التام.
-
وجود الانتفاع دون ملك الرقبة، سواء كان انتفاعه مباحا كالمستأجر، أو محرما كالغاصب.
فإن تنازعت اليد مع الانتفاع أو التصرف فيرجع لمن عليه الضمان، فمن كان عليه الضمان فعليه الزكاة، ولهذا ذكر فقهاء المالكية أن المال المغصوب يكون على الغاصب زكاته لأنه كان في ضمانه، بخلاف اللقطة فلا يزكي الملتقط لأنها ليست في ضمانه لو تلفت.([48])
المبحث الخامس: أثر شرط الملك التام في وجوب الزكاة
لفوات شرط تمام الملك أثره في إسقاط الزكاة، وهذا يظهر بذكر التطبيقات الفقهية التي دار الخلاف الفقهي فيها بناء على وجود أو تخلف تمام الملك:
· زكاة مال الضمار:
أصل الضمار في كلام العرب: الغائب الذي لا يرجى([49])من الدين والوعد وغيره، وكلُّ ما لا تكون منه على ثِقة([50])، من أضمرت الشيء إذا غيبته([51])، ولذا يقال ضمار بالكسر: للمكان المنخفض، والوادي المنخفض، لأنه يضمر السائر فيه، وقيل: مأخوذ من البعير الضامر الذي لا ينتفع به لشدة هزاله مع كونه حيا.([52])
ونعني بالمال الضمار هنا: (هو كل مال غير مقدور على الانتفاع به، مع قيام أصل الملك، مما تكون عينه قائمة مملوكة ولكن لا يرجى الانتفاع به).([53])
-
من صور مال الضمار:
-
المال المفقود.
-
المال السَّاقط في البحر.
-
المال المغصوب.
-
المال الذي صادَره السُّلطان.
-
الدَّينُ غير المرجو كالمجحودُ إذا لم يكُن للمالك بيّنةٌ وحال الحولُ.
-
المال المدفون في الصَّحَراء إذا خَفِيَ على المالِك مكانُه.
وقد اختلف الفقهاء في زكاة المال الضمار على قولين في الجملة:
القول الأول: عدم وجوب الزكاة فيه([54])، وهو مذهب الحنفية والمالكية([55]) ورواية عن أحمد، وهو قول قتادة وإسحاق وأبي ثور.([56])
واستدلوا:
-
ما روي عن علي: «لا زكاة في مال الضمار»([57])، وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك؛ لعدم وصول يده إليها فكانت ضمارا.
-
ولأن المال إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيا، ولا زكاة على غير الغني.([58])
-
ولأنه مال خرج عن يده وتصرفه، وصار ممنوعا منه، فلم يلزمه زكاته، كمال المكاتب.([59])
القول الثاني:
تجب فيه الزكاة، وهو مذهب الشافعي([60])، وهو رواية عن أحمد([61])، وهو قول الثوري وأبي عبيد.([62])
-
احتجاجا بعمومات الزكاة من غير فصل.
-
ولأن وجوب الزكاة مبني على الملك دون اليد، فإن الزكاة تجب في مال ابن السبيل وإن كانت يده فائتة لقيام ملكه.
-
لأن ملكه عليه تام، فلزمته زكاته، كما لو نسي عند من أودعه، أو كما لو أسر، أو حبس، وحيل بينه وبين ماله.([63])
-
ولأنه مال له يملك المطالبة به ويجبر على التسليم إليه، فوجبت فيه الزكاة كالمال الذي في يد وكيله.
-
ولأنها تجب في الدين مع عدم القبض، وتجب في المدفون في البيت، فثبت أن الزكاة وظيفة الملك، والملك موجود فتجب الزكاة فيه، إلا أنه لا يخاطب بالأداء في الحال لعجزه عن الأداء ببعد يده عنه، وهذا لا ينفي الوجوب كما في ابن السبيل.
ويرد عليه:
بأن مال ابن السبيل والمدفون في البيت والدين المقر به مقدور على الانتفاع به، فيقدر ابن السبيل على ماله بواسطة نائبه، والمال المدفون يقدر عليه بالنبش، والدين إذا كان على ملي فهو ما يمكن الوصول إليه.([64])
ومن خلال ما مضى يتبين أن سبب الخلاف في المسألة هو مدى تحقق وصف تمام الملك، ويتبين أن الفقهاء مع المال الضمار على طرفين وبينهما مراتب، فيجعلون الوديعة في طرف والمال المغصوب في طرف يقابله، فمن أوجب الزكاة في المال الضمار تراه يجعل المال المودع مثالا يقيس عليه غيره من المال الضمار، ومن لا يرى الزكاة يجعل المال المغصوب مثالا يقيس عليه باقي أنواع المال الضمار.
وذلك أن المقدور على تحصيله في حكم الحاصل بخلاف غير المقدور على تحصيله، فلما كانت الوديعة مقدورا على تحصيلها جعلت في حكم الحاصل، وهذا الذي جعلهم يفرّقون بين نوعي الديون: المرجوة وغير المرجوة، فغير المرجوة داخلة في المال الضمار، وأما الديون المرجوة -وهي التي يمكن لصاحبها أن يحصّلها- فزكاتها عند الفقهاء تختلف باختلاف تقسيمهم للديون:
-
فأما أبو حنيفة فقد قسّم الدين إلى ثلاثة أقسام:
-
قوي وهو بدل القرض ومال التجارة، فتجب الزكاة إذا حال الحول ولكن يتراخى الأداء إلى أن يقبض أربعين درهما ففيها درهم وكذا فيما زاد فبحسابه.
-
ومتوسط وهو بدل مال ليس للتجارة،كثمن ثياب البذلة وعبد الخدمة ودار السكنى، فلا تجب ما لم يقبض نصابا وتعتبر لما مضى من الحول.
-
وضعيف وهو بدل ما ليس بمال، كالمهر والوصية وبدل الخلع والصلح عن دم العمد والدية وبدل الكتابة والسعاية، فلا تجب ما لم يقبض نصابا، ويحول الحول بعد القبض عليه، وثمن السائمة كثمن عبد الخدمة.
ووجه قول أبي حنيفة:
-
أن الدين ليس بمال بل هو فعل واجب، وهو فعل تمليك المال وتسليمه إلى صاحب الدين، والزكاة إنما تجب في المال، فإذا لم يكن مالا لا تجب فيه الزكاة، وكان ينبغي أن لا تجب الزكاة في الدين الذي لم يقبض ويحول عليه الحول، إلا أن ما وجب بدلا عن مال التجارة أعطي له حكم المال؛ لأن بدل الشيء قائم مقامه كأنه هو، فصار كأن المبدل قائم في يده، وأنه مال التجارة، وقد حال عليه الحول في يده.([65])
-
وأيضا فإن الدين وإن كان مالا مملوكا لكنه مال لا يحتمل القبض؛ لأنه ليس بمال حقيقة بل هو مال حكمي في الذمة، وما في الذمة لا يمكن قبضه فلم يكن مالا مملوكا رقبة ويدا، فلا تجب الزكاة فيه كمال الضمار، فقياس هذا أن لا تجب الزكاة في الديون كلها لنقصان الملك بفوات اليد إلا أن الدين الذي هو بدل مال التجارة التحق بالعين في احتمال القبض، لكونه بدل مال التجارة قابل للقبض، والبدل يقام مقام المبدل، والمبدل عين قائمة قابلة للقبض فكذا ما يقوم مقامه.([66])
وأما محمد وأبو يوسف فالديون عندهما كلها سواء، فتجب الزكاة قبل القبض، وكلما قبض شيئا زكاه قل أو كثر إلا دين الكتابة والسعاية.([67])
ووجه قولهما: أن ما سوى بدل الكتابة والدية على العاقلة ملك صاحب الدين ملكا مطلقا رقبة ويدا؛ لتمكنه من القبض بقبض بدله وهو العين فتجب فيه الزكاة كسائر الأعيان المملوكة ملكا مطلقا إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال؛ لأنه ليس في يده حقيقة فإذا حصل في يده يخاطب بأداء الزكاة قدر المقبوض كما هو مذهبهم في العين فيما زاد على النصاب بخلاف الدية وبدل الكتابة؛ لأن ذلك ليس بملك مطلق بل هو ملك ناقص.([68])
-
وأما المالكية: فستتبين زكاة الديون المرجوة عندهم بمعرفة قسمتهم للدين، فإنهم يقسمونه باعتبار أصله إلى:
-
ما كان أصله قرضًا، أو ثمن سلعة للتجارة؛ فهذا يزكّيه ساعة يقبضه إذا تقدم له حول، فيزكيه لحول واحد إذا قبضه، وإن أقام عند المدين سنين.([69])
-
وما كان أصله فائدةً بميراث، أو هبة، أو صدقة، أو مهر امرأة، أو أرش جناية؛ أو كان الدَّيْن عن ثمن سلعة للقنية فباعها بالنقد ثم تأخر الثمن في الذمة؛ استأنف بالثمن حولًا من يوم القبض.([70])
وأما الشافعية: فيتبين حكم الدين المرجو بمعرفة تقسيم الديون عندهم، والدين عندهم نوعان:
-
إما أن يكون غير لازم -وهو ما يمكن سقوطه- فلا زكاة فيه.([71])
-
وإما أن يكون لازما، وهو إما أن يكون معجلا أو مؤجلا، فالمعجل يزكيه كل سنة إذا كان يقدر على المطالبة به وأخذه، ككونه على مليء باذل لأنه كالوديعة([72])، أو كان على مليء منكر وله بيّنة ويقدر على مقاضاته وأخذ حقه منه.([73])
وأما المؤجل فقد اختلفوا فيه بناء على خلافهم في كونه مالكا له قبل حلول أجله أو لا، على قولين:
-
أنه مالك له، لأنه لما صح أن يبرئه قبل حلول الأجل؛ ثبت أنه مالك له قبل حلول الأجل، فعلى هذا الوجه يكون حكمه في الزكاة على القولين في حكم المال المغصوب.
-
والقول الثاني: لا يكون مالكا له، لأنه لا يملك المطالبة به ولا المعاوضة عليه، وذلك ثمرة الملك، وعلى هذا الوجه يستأنف حوله إذا حلّ أجله.([74])
وأما الحنابلة: فالدين المرجو ما كان على باذل موسر، فتجب فيه الزكاة إذا قبضه لما مضى من السنين، لأنه داخل في ملكه، يقدر على قبضه والانتفاع به كسائر أمواله، ولكن لا يجب عليه زكاته قبل قبضه لأنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه كالدين على المعسر، ولأن الزكاة تجب على سبيل المواساة وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به وأما المستودع فهو كالذي في يده لأن المستودع نائب عنه فيده كيده.([75])
زكاة المال المودع
المال المودع إما إن يكون عند معروف معين وإما أن يُنسى المودَع فلا يعرف عند من أودعه، وإذا كان عند معروف فإما أن يكون المودَع مقرا وإما أن يكون جاحدا، فهذه ثلاث صور لمال الوديعة.
وقد أجمع الفقهاء على وجوب زكاة المال المودع لكل السنين([76])، لأنه مال مقدور عليه([77])، وهو بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظه، ويده كيده، ولأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به، فلزمته زكاته، كسائر أمواله.([78])
ولكن استثنى الفقهاء الوديعة التي يصعب الوصول إليها، فلم يوجب الحنابلة -على الصحيح- الزكاة في وديعة لا يعرف عند مَن هي([79])، وفرّق الحنفية بين ما يكون طريق الوصول إلى المودع قائما ككون المدفوع إليه من معارفه ولكن نسي عينه، وبين من يتعذر الوصول إليه، فأوجبوا الزكاة لما مضى إذا تذكر في الأول دون الثاني([80])، لفقد شرط الزكاة، وهو الاستنماء تحقيقا أو تقديرا([81])، وككون المودع غائبا، فيزكيها لعام واحد، كما نصّ عليه مالك، لأن الزكاة إنما وجبت في المال وإن لم يحركه صاحبه ولا طلب النماء فيه، لقدرته على ذلك، وهو هاهنا غير قادر على تحريكه وتنميته.([82])
زكاة المال الموقوف
قد اختلفت أقاويل العلماء في ذلك كثيرا واختلفت أصولهم فيها:
فالوقف إما أن يكون على معين أو على غير معين:
-
فإن كان على غير معين، ففيه قولان:
-
تجب فيه الزكاة، وهذا مذهب المالكية([83])، لأنها على ملكه.([84])
-
وجماهير العلماء على أنه لا تجب فيه الزكاة، لعدم الملك، لأن في الزكاة تمليكا، والتمليك في غير الملك لا يتصور ([85])، وليس لها مالك معين([86])، ولهذا لا يتمكن من التصرف فيها بأنواع التصرفات([87])، وهذا القول مطّرد على أصول الزكاة الشرعية، فهو أرجح وأولى.
-
-
وأما إن كان الوقف على معين، ففيه قولان أيضا:
-
فذهب المالكية والحنابلة إلى وجوب الزكاة فيه.([88])
-
وخالف الحنفية والشافعية فذهبوا إلى عدم وجوبه في سائر الموقوفات لأن الملك في رقبة الموقوف لله تعالى، واستثنوا الثمار الموقوفة دون غيرها من الموقوفات، واختلف منزع كل فريق، فالحنفية أوجبوا فيه العشر لأنه مؤنة الأرض([89])، وأما الشافعية فأوجبوا فيه الزكاة لتحقق ملك الثمرة.([90])
-
والقول بوجوب الزكاة في المال الموقوف على معيّن قول راشد، لوجود الملك في ذلك، وقفلا لباب التحايل بإسقاط الزكاة بوقفه على من يريد.
زكاة الأموال الدائنة
لما كانت الديون تنقص غنى المدين؛ اختلفت أقاويل العلماء في أثر الدين في ذلك، فمن استدان قدرا من المال ثم حال الحول عليه هل يجب عليه أن يزكيه؟ وإذا لم يحل عليه الحول وهو عنده هل يخصمه من رأس ماله أم يزكي ما عليه دون أن يعتبر الدين مؤثرا في ذلك؟ وهل يختلف الحكم إذا كان الدين حالّا أو مؤجّلا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال:
القول الأول:
من يرى أن الدين يؤثر في الزكاة، فمن كان مدينا فلا زكاة عليه في ماله، وهو مروي عن ابن عباس ومكحول والثوري([91])، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، حتى جعلوا عدم الدين – حالّا أو مؤجلا- شرطا من شروط الزكاة.([92])
إلا إنهم يستثنون بعض الأموال:
فالحنفية يستثنون الزروع والثمار، بناء على أصلهم أن العشر مؤونة الأرض النامية، فلا عبرة فيه بغنى المالك من عدمه.([93])
والمالكية – ورواية عند الحنابلة- يستثنون الحرث والمعدن والماشية([94])، لأنهما ينميان بأنفسهما فكانت النعمة فيها أتمّ، فقوي إيجاب الزكاة شكرا للنعمة فلا يؤثر في سقوطها الدين([95])، ولظهورها فتتعلق قلوب الفقراء بها، لرؤيتهم إياها، ولأن الحاجة إلى حفظها أشد([96])، ولأن الأئمة كانوا لا يفرقون عند أخذ الزكاة، بخلاف زكاة العين فقد كان عثمان ينادي بذلك.([97])
واستدلوا على ذلك:
-
بما روي عن عثمان t أنه خطب في شهر رمضان فقال في خطبته: “ألا إن شهر زكاتكم قد حضر فمن كان له مال وعليه دين فليحسب ماله بما عليه ثم ليزك بقية ماله”.([98])
-
وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان إجماعا منهم على أنه لا تجب الزكاة في القدر المشغول بالدين.([99])
-
ولأنه محتاج إلى هذا المال حاجة أصلية؛ لأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية، والمال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون مال الزكاة؛ لأنه لا يتحقق به الغنى.
-
والمدين محتاج لقضاء دينه كحاجة الفقير إلى الزكاة فلم يتحقق فيه وصف الغنى الموجب للزكاة فقد قال e: ” لا صدقة إلا عن ظهر غنى”.([100])
-
أن ملكه لذلك المال ناقص، لتسلط المستحق، فإن لصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه أن يأخذه من غير قضاء ولا إرضاء، وعند الشافعي له ذلك في الجنس وخلاف الجنس، وهذا آية عدم الملك كما في الوديعة والمغصوب، فلأن يكون دليل نقصان الملك أولى([101])، ومما يدل على عدم استقرار ملكه أنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء.([102])
-
أن صاحب الدين تلزمه الزكاة فلو أوجبنا على المديون أيضا لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد.([103])
القول الثاني:
من لا يرى للدين أثرا على وجوب الزكاة، كما هو مذهب الشافعية، وأنه لا يمنع وجوب الزكاة كيفما كان.([104])
واستدلوا على ذلك:
-
بعمومات الزكاة التي لم تفصل بين مال وآخر مما دخل تحت يد المكلف.
-
ولأن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب، وشرطه أن يكون معدا للتجارة، أو للإسامة وقد وجد، أما الملك فظاهر؛ لأن المديون مالك لمال الدين لوجوبه في ذمته ولأنه يملك التصرف فيه كيف شاء، وأما الإعداد للتجارة أو الإسامة؛ فلأن الدين لا ينافي ذلك، والدليل عليه أنه لا يمنع وجوب العشر.([105])
ومما يرد به على القول الأول؛ أن استثناءهم لبعض الأموال مخالف لإطلاق فتوى عثمان الذي استدلوا بها، وذاك تحكم.
ولعل القول بأن الدين يؤثر في الزكاة فيسقطها إذا كان حالا، وليس عند المدين من عروض القنية زائدة على حاجته، ولا يكون مماطلا، هو الراجح، والعلم عند الله.
زكاة المال المرهون
اختلف الفقهاء في زكاة المال المرهون:
القول الأول:
أن المال المرهون لا زكاة فيه على الراهن ولا على المرتهن، وهو قول الحنفية([106])، لعدم الملك التام الذي يترتب عليه انتفاء التنمية.([107])
القول الثاني:
تجب فيه الزكاة على الراهن، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، لأن ملك الراهن عليها تامٌ، وإنما هو ناقص التصرف فيها لحق المرتهن، وذلك لا يمنع وجوب الزكاة، كمال الصبي والمجنون([108])، وهذا قول فيه وجاهة، فإن المال المرهون شبيه بالوديعة التي تجب فيها الزكاة بلا إشكال.
زكاة المباح الذي لا يملك إلا بأخذه.
عامة السلف على أن ما حصله المسلم مما لم تحرزه يد قبله، كالحبوب والثمار مما ينبت في الجبال والأراضي المباحة وكالنخيل المباح لا زكاة فيه، لعدم صلاحية الملك، فليس له مالك معين قبل أخذه، فإنه إنما يملك بحيازته، ويعتبر لوجوب الزكاة أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة، فزكاة الخارج من الأرض إنما تجب فيه إذا بدا صلاحه، وهو لم يكن مملوكا حينئذ، فلا يتعلق به الوجوب.([109])
زكاة حصة المضارب
لما كان الربح وقاية لرأس المال، ولم يتحقق ملكه للمضارب، اختلف نظر الفقهاء في زكاته على أقوال:
القول الأول:
على رب المال زكاة رأس المال، وحصته من الربح، وعلى المضارب زكاة حصته من الربح إذا وصلت يده إليه إن كان نصابا أو كان له من المال ما يتم به النصاب، وهذا مذهب الحنفية([110]) والمالكية([111]) وقول للشافعية.([112])
واستدلوا:
-
بأن المضارب شريك في الربح، فكما يملك رب المال نصيبه من الربح فكذلك المضارب؛ لأن مطلق الشركة يقتضي المساواة، وبيان الوصف أن رأس ماله العمل ورأس مال الثاني المال، والربح يحصل بهما فتحققت الشركة، والدليل عليه أن المضارب يملك المطالبة بالقسمة ويتميز به نصيبه ولا حكم للشركة إلا هذا.([113])
-
ولأنه متمكن من التوصل إليه متى شاء بالاستقسام، فأشبه الدين الحال على المليء.([114])
-
ولأن الزكاة تجب عند المخالف في الضال والمغصوب، وإن كان رجوعه مظنوناً فكذلك هنا.([115])
القول الثاني:
أن الزكاة تجب على رب المال، لا المضارب، وهذا قول الحنابلة، وهو قول للشافعية.([116])
-
لأن نصيب المضارب وقاية لرأس المال فلو نقصت قيمة الأصل أو خسر فيه أو تلف بعضه لم يحصل للمضارب.([117])
-
ولأن الربح تبع، وزكاة الأصل عليه فكذلك التبع. ولم تجب على العامل لأن ربحه فائدة.([118])
-
ولأن استحقاق المضارب لربح المضاربة بطريق الأجرة لا بطريق الشركة؛ إذ ليس له رأس مال، واختلاف الجنس من الجانبين يمنع صحة الشركة، ولكنه وكيل مستأجر، ودليله: المسمى لعامل الصدقات، فحصته من الربح أجرة إنما يملكها بالقبض([119])، وقد يقال: هو جعل على العمل فلا يملكه قبل تمام العمل، والدليل على أنه جعل: أن تصحيح العقد بوجه الإجارة لا يجوز، لأن العمل مجهول، والإجارة على العمل المجهول باطل.([120])
-
ولأن العامل لا يستقل بالتصرف فأشبه المغصوب.([121])
-
ولأن المضارب إن قلنا أنه يملك الربح فملكه ناقص غير مستقر؛ لأنه وقاية لرأس المال، ولا يختص المضارب بنمائه.([122])
-
ولأن ملك المضارب لو كان تاما لاختص بربحه كما لو اقتسما ثم خلطا المال، والأمر هنا بخلاف ذلك، فإن من دفع إلى رجل عشرة مضاربة فربح فيها عشرين ثم اتجر فربح ثلاثين؛ فإن الخمسين التي ربحها بينهما نصفان، ولو تم ملكه بمجرد ظهور الربح لملك من العشرين الأولى عشرة واختص بربحها وهي عشرة من الثلاثين، وكانت العشرون الباقية بينهما نصفين فيصير للمضارب ثلاثون([123])، وهذا قول قوي والعلم عند الله.
القول الثالث:
لا زكاة فيه على أحد.
لأنه متردد بينه وبين رب المال يسلم له إن بقي كله ويكون لرب المال إن هلك بعضه فهو نظير كسب المكاتب الذي ليس فيه زكاة على أحد؛ لأنه متردد بينه وبين المولى.([124])
زكاة الصداق
لما كان الصداق مما قد يتراخى قبضه، ويحتمل ألا يدخل تحت اليد بعد العقد، وقع الإشكال في وجوب زكاته فيما لو حال عليه الحول قبل قبضه:
القول الأول:
تجب الزكاة في الصداق، وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل([125])، لأنه دين يستحق قبضه، ويجبر المدين على أدائه فوجبت فيه الزكاة كثمن المبيع.
ولكن اختلفوا في صفة الإخراج، فالشافعي يوجب إخراجه مطلقا في كل حول([126])، وأحمد يوجبه إذا قبضتْه عن السنوات الماضية، فلو سقط كلُّه بفَسْخ من جهتها سقطت زكاته، ولو سقط نصفه بطلاق قبل الدخول سقطت زكاة نصفه، لأنه من جملة الديون، ولذا لو كان على مماطل أخذ حكم الدين الذي يكون على المماطل، فإن الزكاة مواساة، فلا تلزم المواساة إلا مما حصل له([127])، وأبو يوسف ومحمد يوجبانه لما مضى إذا قبضت منه شيئا ولو لم يبلغ نصابا إذا كان أصله يبلغ نصابا، لأنها بالعقد ملكت الصداق ملكا تاما، ولذا تملك التصرف فيه على الإطلاق، وعدم ملك اليد غير مانع من انعقاد الحول ووجوب الزكاة فيه، كالمبيع قبل القبض والمغصوب إذا كان الغاصب مقرا.([128])
القول الثاني:
لا زكاة فيه حتى يقبض فيستقبل به حولا، وهذا قول أبي حنيفة، لأنها ملكت المالية ابتداء بعقد النكاح فلا يتم ملكها فيه إلا بالقبض كالدية على العاقلة، ولأن وجوب الزكاة في السائمة باعتبار معنى النماء، وقبل أن يقبض الصداق فهو متردد بين أن يسلم لها بالقبض، أو ينتصف بالطلاق قبل الدخول بخلاف ما بعد القبض.([129])
ولا يصح أن يعلق الأمر بوجود صحة التصرفات، فهو وإن حصل لها أصل الملك بالعقد، فإن تمام ما هو المقصود لا يحصل إلا بالقبض، ووجوب الزكاة ينبني على تمام المقصود لا على حصول أصل الملك بخلاف التصرف فإن نفوذه ينبني على ثبوت أصل الملك، لاسيما أن الصداق جعل صلة من وجه فلا يتم ملكها المال إلا بالقبض.([130])
القول الثالث:
التفريق بين الصداق المعين وغير المعين، فما كان معينا ففيه الزكاة، كنخل بعينه أو ماشية بعينها، لأنها من ضمانها، وهذا بخلاف لو كان غير معين، فلا زكاة فيه([131])، لأنه مال فائدة، وهو أيضا من ضمان الزوج، وهذا مذهب المالكية.([132])
ويظهر أن مذهب الموجبين للزكاة أقوى، ولكن صفة الإخراج عند الحنابلة أوجه من غيرهم، لأنه كما ذكروا من جملة الديون، ويجري عليه ما يجري عليها، ولو قيل بمذهب الشافعية فإنه إن لم يستقر كله أو نصفه للزوجة بفسخ أو طلاق قبل الدخول فسيوجبون الرجوع على الزوج، وقد سبق ذكر ما في ذلك في مسألة زكاة الديون، بشرط أن يكون صداقا غير معلق بالفراق، فإذا كان الصداق الذي يقال له: المؤخر فتلك مسألة ثانية.
التطبيقات المعاصرة
وهي: أموال تستحقها الشركة من غيرها تخص السنة المالية الحالية، ولم يتم تحصيلها حتى تاريخ انتهاء السنة المالية.([133])
وتكيَّف شرعا: على أنها ديون للشركة على غيرها.([134])
الحكم الشرعي:
تأخذ الإيرادات المستحقة حكم الديون، فإذا كانت مرجوة السداد فتجب فيها الزكاة؛ لأن الملك فيها تام، وإن كانت غير مرجوة السداد؛ فلا تجب فيها الزكاة؛ لعدم تمام الملك.([135])
-
المصروفات المدفوعة مقدمًا:
وهي: أموال تملكها الشركة ملكية كاملة، ولكنها دفعتها مقدما لخدمات تستحق في فترة قادمة.([136])
الحكم الشرعي:
اختلف الباحثون في حكم زكاتها، وسبب خلافهم هو مدى تحقق الملكية فيها:
فمن ذهب إلى عدم وجوب زكاتها رأى بأنها قد خرجت عن ملك الشركة مقابل العقد المبرم، فلا زكاة فيها.
وأما من ذهب إلى وجوب زكاتها فرأى أنها لم تخرج تمامًا عن ملك الشركة بدليل أن الشركة يمكنها أن تستعيد المبلغ ولا تقوم بدفعه، فملكية الشركة على تلك المبالغ لا زالت قائمة إذا كان في العقود المستقبلية غير اللازمة.
وهذا أمر مؤثر بخلاف لو كان عقدا ملزما، ولذا ذهب أكثر المعاصرين أنه لا تجب الزكاة في المصروفات المدفوعة مقدمًا ([137])؛ لأن الأصل مضي العقد وإلزامه؛ وعلى ذلك فتنقل ملكية هذه المبالغ إلى المستفيد، بخلاف إذا كان العقد غير لازم فقد استثناه بعضهم، ورأى وجوب الزكاة في ذلك المبلغ؛ لاحتمالية الفسخ.([138])
يقصد بها: المبالغ المقدمة من العملاء على هيئة دفعات تحت حساب توريد بضاعة أو خدمات لهم.([139])
الحكم الشرعي:
تتم هذه الدفعات النقدية بموجب عقد مبادلة كتابي أو شفوي، فتدخل في ملك الشركة، لكنها على نوعين:
-
إذا كانت عن بضائع فتجب زكاتها ولو لم تسلم، وعليه فيجب ألا تحسم من الموجودات الزكوية.
-
أما إذا كانت عن خدمات لم تؤدّ؛ فذهب بعضهم إلى أنه لا زكاة فيما يقابل هذه الخدمات؛ لعدم استقرار الملك في الدفعات، فتحسم من الموجودات الزكوية لأن الإجارة تفسخ بالأعذار وبالظروف الطارئة([140])، وذهب آخرون إلى وجوبها في تلك الحال كذلك.
وهذه المسألة قد تخرَّج على مسألة مشهورة عند الفقهاء، وهي زكاة الأجرة المعجلة في عقد الإجارة طويلة الأجل:
واختلف أهل العلم في زكاتها على قولين:
القول الأول: أن على المؤجر إخراج زكاة الأجرة إذا بلغت نصابا أو ضمت إلى ما تبلغ معه نصابا، وهو قول الحنفية([141]) والحنابلة([142])، وقول عند الشافعية([143])، وقول عند المالكية([144]).
ودليلهم: أن ملكه قد ثبت على الجميع، وملك التصرف فيه، بدليل: أن الأجرة لو كانت جارية ملك وطئها، فأشبه مهر المرأة قبل الدخول. ([145])
القول الثاني: لا يلزمه إخراج الزكاة إلا عن القدر الذي استقر ملكه عليه، وهو قول عند الشافعية([146])، وقول عند المالكية([147]).
ودليلهم: أن ملكه غير مستقرٍّ على ما زاد على أجرة السنة الأولى؛ لأن الدار قد تنهدم، فتنفسخ الأجرة ويجب رد الأجرة، فلم يجب إخراج زكاتها، كمال الكتابة. ([148])
-
الاعتمادات المستندية للبضائع المستوردة:
يقصد بها المبالغ المدفوعة للبنوك لفتح اعتمادات مستندية لشراء آلات أو معدات أو قطع غيار، أو بضاعة أو خامات من الخارج.([149])
الحكم الشرعي:
بما أن المبالغ المحجوزة من قبل المصارف لحساب الاعتمادات المستندية لا تزال ملكًا للشركة إلى أن يتم تسلم وثائق البضاعة من البنك المراسل في دولة المورد، فإن هذه المبالغ تدخل ضمن الموجودات الزكوية، وأما نفقات وعمولات فتح الاعتماد فتستبعد لأنها غير قابلة للاسترداد ولو حصل فسخ الاعتماد. ([150])
-
التأمينات:
ويقصد بها: المبالغ المودعة لدى الجهات الحكومية أو المؤسسات والشركات على صفة تأمين، في المناقصات والعطاءات والتوريدات والمقاولات، لا تسترد إلا بعد الانتهاء من الغرض التي دفعت من أجله.([151])
الحكم الشرعي:
لما كانت هذه المبالغ محبوسة عن أصحابها فملك الشركة لها غير تام، فلا تجب فيها الزكاة إلا إذا قبضتها، فتزكيها عند قبضها عن سنة واحدة، ولو بقيت محجوزة لسنين.([152])
-
المبالغ المحتفظ بها عن العقود.
وهي قيمة النقدية المتبقية المحجوزة لدى العملاء، لضمان إنجاز تعهدات والتزامات الشركة تجاه تنفيذ العقود وفقا للشروط المتفق عليها في العقود.([153])
الحكم الشرعي:
ملك الشركة لهذه المبالغ غير تامّ فلا تجب فيها الزكاة إلا إذا قبضتها، فتزكيها عند قبضها عن سنة واحدة، ولو بقيت محجوزة لسنين. ([154])
-
المبالغ المدفوعة مقدما:
تمثل المبالغ المدفوعة مقدماً إلى العملاء كالمقاولين وغيرهم، لتمكينهم من الشروع في تنفيذ المشروعات المتفق معهم عليها لشراء المعدات والمواد الخام المطلوبة للمشروع قيد التنفيذ.([155])
الحكم الشرعي:
في حكم المبالغ المدفوعة مقدمًا تفصيل:
فإذا كان المشترى بضاعة بقصد التجارة:
فإن هذه المبالغ تدرج ضمن الموجودات الزكوية؛ لأنها عروض تجارة، وتقوّم حينئذ بالتكلفة المدفوعة في اقتنائها، وملك المكلف لها تام.
وأما إذا كان المشترى أصلا ثابتًا يقصد منه التشغيل ودر الدخل:
فإن الزكاة في هذه الحالة تكون على الإيرادات فقط إذا حال عليها الحول، وتعتبر من عروض الغلة.([156])
-
مكافأة نهاية الخدمة.
وهي نسبة محددة تستقطع من الراتب أو الأجرة ويضاف إليها نسبة محددة من المؤسسة، ويستحقها الموظف أو العامل دفعة واحدة في نهاية خدمته، أو حسب النُظم السائدة، وتصرف المنشأة عليها تصرف كامل ولذا تقوم باستثمارها وتنميتها والانتفاع بها.
ويجب النظر في زكاتها من جهة المنشأة، ومن جهة الموظف:
فأما بالنسبة للمنشأة: فقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم زكاتها على قولين:([157])
-
فذهب بعضهم إلى حسمها من الموجودات الزكوية؛ لأن ملك المنشأة لها غير تام، فهي في حقيقتها دين محتمل على المنشأة.
-
وذهب آخرون إلى عدم حسمها؛ لأنها لا تعتبر دينًا على الشركة، بل تبقى في ملكيتها، ولا تنتقل إلى ملكية العامل إلا عند انتهاء الخدمة، ولهذا لا يحق له المطالبة بها قبل انتهاء خدمته، وبناء على ذلك فهي باقية في ملكية رب العمل، ينتفع بها ويستنميها ويستثمرها لفائدة نفسه. فلا وجه إذًا للمطالبة بخصمها من وعاء الزكاة.
وهذا القول هو ما اعتمده دليل الإرشادات.([158])
وأما بالنسبة للموظف: فلا زكاة عليه، كما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: “إذا لم يكن له على هذا الحساب سلطة فلا زكاة عليه، لعدم ملكه التام له، إلا بعد قبضه فيزكيه عن سنة واحدة“.([159])
وجاء في توصيات الندوة الخامسة لقضايا الزكاة المعاصرة: “لا تجب الزكاة على العامل أو الموظف في هذه الاستحقاقات طيلة مدة الخدمة؛ لعدم تحقق الملك التام الذي يشترط لوجوب الزكاة“.([160])
-
المخصصات.
-
وهي: مبالغ تقديرية مستقطعة تحتجزها الشركة باختيارها من الإيرادات؛ في مقابل مصروفات أو التزامات محتملة الحدوث غير معلومة المقدار، من باب التحوط والحذر.([161])
الحكم الشرعي:
ويمكن القول بأن الوصف الفقهي الشامل لجميع أنواع المخصصات أنها:
-
مملوكة للشركة ملكًا تامًا، وتصرفها باق عليها، واحتجازها من أجل عدم عرضها في الأرباح، وليس احتجازًا حقيقيًا، بل هو صوري.
-
نامية في غالب أحوالها أو قابلة للنماء، والغالب أنها تستثمر حتى يأتي موعد سدادها، أو يتحقق الالتزام بها؛ لأنها ليست مصاريف حقيقية، حتى يتحقق سببها وشرطها.
-
لا يصدق عليها وصف الدين، لعدم تحقق شرطه فيها، وإذا تحقق شرطه وثبت في الذمة، فلا يصح أن تكون مخصصا، وإنما تكون ذمما دائنة، أو بنودا مستحقة باسم الموضوع الذي تصرف له؛ مثل: الضرائب المستحقة.
وبناء على هذه المحددات فإن جمعًا من المعاصرين ذهبوا إلى أنها تعتبر من قبيل النقدين، وتجب فيها زكاة النقدين، وإذا استثمرت وجبت فيها زكاة عروض التجارة، ولا تحسم من الموجودات الزكوية، بل تدخل فيها، وإذا صرفت أو استحقت خرجت عن كونها مخصصًا، وحسمت من الموجودات الزكوية.([162])
والله أعلم
الخاتمة
أهم نتائج البحث:
-
أن شرط التملك التام من أهم الشروط التي لا بد من مراعاتها في مسائل الزكاة؛ وقد اتفق العلماء قاطبة على اشتراطه.
-
أن الشارع قد فرض الزكاة على وجه اليسر، فلم يفرض الزكاة إلا في ما يحتمل المواساة، وما لم يتم الملك فيه من الأموال ليس بمحتمل للمواساة؛ فلم تجب فيه الزكاة.
كما أن الزكاة قد شرعت شكرًا لنعمة الغنى، والنعمة المقصودة هي النعمة الكاملة؛ حتى يقع الشكر على أعلى رتبه، والمال إذا اتسم بنقص الملكية لا يكون المالك به غنيًا.
-
أن لتمام الملك ضوابط تضبطه، وهي:
-
استقرار الملك؛ وذلك بأن يوجد مع ملك الرقبة ملك اليد من غير أن يكون قابلا للسقوط.
-
تعيين المالك، فلا تجب الزكاة فيما ليس له مالك معين.
-
القدرة على الانتفاع بالمال، وذلك أن درجات التصرف والانتفاع بالمال ليست على رتبة واحدة، واختلف نظر الفقهاء في ذلك بناء على اختلاف درجات التصرف، ومن تلك الرتب:
-
ملك الرقبة فقط دون اليد، كالمال الضائع.
-
ملك الرقبة مع وجود التصرف فقط كمال الأسير.
-
-
-
ملك الرقبة مع التصرف والانتفاع وهو الملك التام.
-
وجود الانتفاع دون ملك الرقبة.
-
أن سبب خلاف أهل العلم في مسألة زكاة مال الضمار هو مدى تحقق وصف تمام الملك، ويتبين أن الفقهاء مع المال الضمار على طرفين وبينهما مراتب، فيجعلون الوديعة في طرف والمال المغصوب في طرف يقابله، فمن أوجب الزكاة في المال الضمار: يجعل المال المودع مثالا يقيس عليه غيره من المال الضمار، ومن لا يرى الزكاة: يجعل المال المغصوب مثالا يقيس عليه باقي أنواع المال الضمار.
-
أجمع الفقهاء على وجوب زكاة المال المودَع لكل السنين، لأنه مال مقدور عليه، وهو بمنزلة ما في يده.
-
أنه لا زكاة في الموقوف على غير معين –على الراجح-؛ لعدم تحقق تمام الملك فيه، وهو القول المطرد على أصول الزكاة الشرعية، وأما إن كان الوقف على معين؛ فالقول بوجوب زكاته قول راشد؛ لوجود الملك في ذلك، وقفلا لباب التحايل بإسقاط الزكاة بوقفه على من يريد.
-
أن الدين يؤثر في الزكاة فيسقطها إذا كان حالًا –على الراجح-، إذا لم يكن عند المدين من عروض القنية ما هو زائد على حاجته، ولم يكن مماطلا.
-
أن الزكاة في المال المرهون تجب على الراهن–على الراجح-؛ لأن ملك الراهن عليها تام، وإنما هو ناقص التصرف لحق المرتهن، وذلك لا يمنع الوجوب.
-
عدم وجوب الزكاة في المباح الذي لا يملك إلا بأخذه –عند عامة السلف-؛ لعدم صلاحية الملك، فليس له مالك معين قبل أخذه.
-
أن الزكاة تجب على رب المال، لا المضارب في الربح قبل القسمة –على الراجح-.
-
أن الزكاة تجب في الصداق إذا قبضته المرأة لما مضى من السنين –على الراجح-؛ لأنه من جملة الديون، ويجري عليه ما يجري عليها.