How Can We Help?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن مبنى الشريعة على رعاية الحِكَم، وتوفير مصالح العباد في المعاش والمعاد، وكل مسألة خرجت عن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بنوع من التأويل.([1])
وقد بلغ من استقرار هذا الأمر في نفوس عامة أهل العلم وخاصتهم، مبلغًا لا يُحتاج معه إلى تنويه وتنبيه.
ومما يدخل في ذلك مراعاة مصلحة المال فجاء الشرع بالأمر بحفظه، كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}. [النساء آية 5].
وأثنى على المنفق حتى قرنه بصاحب العلم بالقرآن، فقال ﷺ: ‹لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا›.([2])
وحرم إضاعته، فعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‹إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ›.([3])
وشرع حدًا على سرقته، فقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [المائدة: 3].
وحرم أكل المال بالباطل، فقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة/188.
ونهى عن إتلافها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: ‹مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّه›.([4])
ووضع للمعاملة بالمال ضوابط وأكد على شروطها، وسواء عليها أكان ذلك في العبادات أو المعاملات أو الجنايات أو غيرها، فإن للمال مدخلا كثيرا في كل ذلك.
ففي الطهارة يأتي ذكر ذلك -مثلا- في قِيم الماء عند شحه وندرته، وحكم الانتقال للتيمم إن زاد على سعر مثله.
وفي الصلاة يدخل في أحكام أرزاق الأئمة والمؤذنين.
وأما في الزكاة فذاك بابها الواسع.
وفي الحج للمال مدخل في أحكام الاستطاعة بضابط الزاد والراحلة، وأحكام الاستئجار لمن ينسك حجا أو عمرة.
وفي الجهاد يذكر في أحكام تجهيز الجيوش وقسمة الغنائم.
وفي النكاح في أبواب الصداق والنفقة ومتعة المطلقة ثم استئجار المرضعة، وهلم في أكثر أبواب الفقه في الدين تجد للمال مدخلا تبوأ أحكامه بحسبانها.
ولكنْ مما يحتاج أن يشار إليه في هذه المقالة هو حدود الرعاية الشرعية للمصالح المالية في مقابل غيرها، والقدر الذي ينتهي إليه رعي هذا المقصد، فكثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا؛ وتجده عند تحقيق الأمر ذا منفعة مرجوحة ومضرة راجحة، كما قال تعالى: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}.
وأَعْرَضُ الدعاوى ادعاء المصلحة في الاجتهاديات، وما شاء أحد أن يثبت أمرا وأن يرد أمرا من أمور الديانة إلا تسوّر ذلك بدعوى المصلحة، وهو ادعاء مشترك بين كثير ممن يتحدث عن المقاصد وحفظ المصالح ودرء المفاسد.
والعصمة موكولة بضبط ميزان الشريعة في حدود مقصد حفظ المال، فإن الاشتباه واقع في هذا الشأن لأسباب منها:
– عدم تحقيق المعتبر والملغى من المصالح في الشريعة.
– عدم ضبط مراتبها بمعرفة الأعلى فما دونه إلى الأدنى على ترتيب ما قررته النصوص.
– عدم ضبط مراتب ما يرتكب من المفاسد لاسيما إذا اجتمعت في محل واحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء».([5])
والجاري في العادة أن طروء الخلل في التصرفات الفقهية -في هذا الباب- ليس يأتي من إهدار المصالح وإلغائها؛ بقدر ما يأتي من إعمالها على غير قانون الوحي ومجافاتها له .
وهذا التجافي عن قانون الوحي -في هذا الباب- يقع على أنواع:
-
فمن ذلك عدم الالتفات للمصالح القلبية الإيمانية في مقابل المصالح الدنيوية المحسوسة، فإنه لما كان للمصالح الشرعية المدركة بالعقول داعية في الطبع تدعو إلى حياطتها وحفظها؛ جاء الخلل بإهدار بعض المصالح الإيمانية المتعلقة بأمر غيبي مما ليس يدرك بمباشرة المحسوسات .
ومن ذلك ما ثبت في مسلم([6])، عن عمران بن حصين، قال: «بينما رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله ﷺ، فقال: ‹خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة›. قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس، ما يعرض لها أحد».
فهذا نص في اعتبار مصلحة المباعدة عن الأعيان الملعونة، لدخولها باللعن في الشر والشؤم ونقص البركة واليمن، وهي مصلحة لها نظائر اعتبرتها نصوص الوحي.
فإن للمعاصي -واللعن بخاصّة- من التأثير على المكلفين والديار والعجماوات ما جعل الشريعة تهدر مالية هذه الأعيان ومنفعتها توقيا من ذاك التأثير.([7])
وهذا باب عظيم من أبواب المحافظة على تلك المصلحة بهذا الزاجر المالي، فإن سلب الشريعة لماليتها ومنع الانتفاع بها مع عظم الحاجة لحرز المال وعظم حاجة الصحابة هذا وهم في سفر طاعة -فإن كل أسفار النبي ﷺ كانت في غزو أو نسك- ، ومع كل ذلك فإن النبي ﷺ لم يعتبر هذه المصلحة في مقابل دفع تلك المفسدة.([8])
ومثل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، أن الناس نزلوا مع رسول الله ﷺ أرض ثمود والحجر، فاستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.([9])
قال ابن هبيرة: «فإن البركة تؤثر في الأرض والماء، وكذلك اللعنة والعذاب».([10])
وفيه دليل على جواز إهدار المصلحة المالية لمثل هذا الاعتبار.
وفي هذا المعنى الشريف يقول ابن تيمية: «وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة كما قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} وقال تعالى: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}، {ذلك مبلغهم من العلم}، فتجد كثيرا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن».([11])
-
ومن فروع ما سبق ما يتصوره بعضهم من أن المصالح إنما شرع حفظها لجلب النفع ودفع الضر الدنيويين، ويغفل عن كونها شرعت للمحافظة على (مقصود الشارع) بإصلاح القلوب وإخراجها من تحكمات الهوى وتسلطه، يقول الشاطبي: «إن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}، ومن أمثلة ذلك الجهاد قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم}».([12])
وقد روى الشيخان عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن جده رافع بن خديج، قال: «كنا مع النبي ﷺ بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، فأصبنا إبلا وغنما، وكان النبي ﷺ في أخريات الناس، فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع إليهم النبي ﷺ فأمر بالقدور فأكفئت».([13])
فإنك إذا تأملت هذا الحديث، ثم رأيت أن النبي ﷺ لم يوسع للمجاهدين من صحابته -مع حاجتهم – في أكل ما ذبحوه قبل قسمة الغنيمة، بل أمر بإتلافه، ولم يعصم ماليته، ولم يعتبر مقصد حفظ المال هنا، مع أن هذا المال من مال الغانمين في الجملة، وليس مما حرم في أصله وإنما حرم لوصف عارض، ومع هذا تجد أنه ﷺ عاقبهم بحرمانهم منه مع تعلق قلوبهم وقرمهم إليه، ليكون أبلغ في الزجر، وآكد في التنبيه على مصلحة إصلاح القلب بالبعد عن المعاصي.([14])
ولعل قائلا أن يقول: إن هذا المال مال الغانمين في غاية أمره، وهم مجاهدون محتاجون، وقد استقر في الشرع تعظيم (الأموال وعصمتها)، فيستشكل أن يتلف النبي ﷺ هذا الطعام، حتى قال المهلب: «واعلم أن المأمور به من إراقة القدور، إنما هو إتلاف لنفس المرق عقوبة لهم، وأما نفس اللحم فلم يتلفوه! بل يحمل على أنه جُمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه؛ لأنه مال للغانمين، وقد نهى عن إضاعة المال مع أن الجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة إذ من جملتهم أصحاب الخمس ومن الغانمين».([15])
ولست أشك أن ما قاله المهلب -وتتابع عليه جمع من الشراح دون تعقب- غير صحيح، فليس في إراقة المرق واستبقاء اللحم زاجرة تزجر عن مواقعة المخالفة، وهو خلاف ظاهر النص الذي لم يفصل في الواقعة، ويقوي ذلك ما جاء في سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال: «ثم جعل يرمل اللحم بالتراب»([16]).
فانظر كيف دخل الخلل حين لم يستبشع بعضهم المفسدة على نحو استبشاع الشرع لها، وهذا لا ينافي أن الشريعة قد جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت لهم حظوظهم([17])، ولكن على قدر لا يخرج المؤمن عن مطلق الطواعية لله.
-
ومنه: عدم ضبط مراتب المصالح على النحو الذي جاءت به الأدلة، وذلك بالاسترسال في تعظيم مصلحة -معتبرة في الجملة- بأكثر مما عظمتها الشريعة، والواجب أن يكون: “اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها”.([18])
واعْتَبر ذلك بالنظر إلى مفسدة (الرجوع في الهبة) في مقابل (مصلحة حفظ فرس؛ أعطيت لمن يجاهد بها)، فلربما نهض بقلبك وارد أن: مقاصد الشريعة تدل على وجوب شراء الفرس -التي أعدت للجهاد- واستردادها من يد من لم يحفظها، لتكون فيما أعدت له، وربما عضد ذلك ما للخيل من شرف أكّدت عليه النصوص، حتى حفظ جنسه بمنع إنزاء الحمُر عليها([19])، لكن إذا سمعت حديث عمر أنه قال: «حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي ﷺ، فقال: ‹لا تشتري، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه›»([20])، ظهر لك من ترتيب المصالح ما لعله ليس كما يبدو في بداهة النظر.
فإن قيل: ولكن النبي ﷺ لم يمنع غير عمر من شرائه، قيل: نعم، لتخلف المفسدة المقابلة، مفسدة الرجوع في الهبة.
وإنما يحصل الخلل في فهم ترتيب المصالح لقصور فهوم العباد عن كمال تصور المصالح وما يضادها.
قال الشاطبي: «إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له؛ فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمرا لا يتم له على كماله أصلا، ولا يجني منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء»([21]).
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ